عفاف .. والبيت الكبير
هى التى أفلحت فى الإلتحاق بكلية الطب، تلك الفتاة التى أسمَهاَ عفاف، والتى تعيش فى البيت الكبير، الذى يضم عائلة عريقة، تكاد تصل إلى أربعة عشرة نفسا، من ثلاث أشقاء، عامر وحسين وشكرى، ونسائهم، وأولادهم، فهى تعيش فى كنف أبيها عامر أكبرهم، وأولاد عمها الأربعة الذين هم فى سنها، وقد رزق الله تعالى عامر بأبنته عفاف، وهى وحيدة له، كان عندما أنجبها أنثى توارى بوحهه عن أخوته، وكاد أن يخسف بها بعيدا عن البيت الكبير الذى يملؤه الذكور.
فهو الوحيد ذريته أناث وذرية أخواته ذكور، كان كأنما بُلىَ ببلية، حتى أسودت الدنيا أمام عينيه، وكره الحياة، فكلما ينظر فى وجوه أولاد أخوته الذين يملؤن البيت صخبا ولعبا، يعتقد كأنما يلومونه، بعدَ عنهم وترك البيت أيام وليالى بحجة أنه يقوم على إنجاز أعمال بخصوص حدائق الفاكهة التى يملكها، وكان الشيطان يسول له الحياة الرغدة التى يعيشونها أولاد أخوته، حتى قرر أن يتزوج ليرزق بولد مثلهم، وكان لا يرضى بنصيبه الذى قدره الله له.
وكانت زوجته تقيه تراعى الله فيه، فكانت تحس بما هو يحس، وتألم لما هو يألم، حدثته كثيرا عن القسمة والنصيب، وإرادة الله فيما يمنحه لعباده.
- ليس الذكر كالأنثى.
قالها وهو غاضب، ولكن هذا قدر الله، فالإناث ليسوا كمالة عدد، وإنما هى مثل الذكور تماما، لها ما لها وعليها ما عليها، وليس بيد أى بشر أن يخلق ذكرا أو أنثى، بل الله هو الذى يقر فى الأرحام ما يشاء، وهو الذى يهب لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما.
عندما تليت زوجته الآية الكريمة، صدق قول الله تعالى.
كل هذه المواعظ كانت تلقنه بها زوجته كل ما ترى الضيق على وجهه، فهى على دراية من أمور الحياة، لأنها تلقت قدرا ضئيلا من التعليم، جعلها تقرأ كتاب الله وتعلم نواهيه، فلذلك كانت توعظه ليتجنب وساوس الشيطان، وكان البيت الكبير الذى عرف بالتقوى وحُسن المعاملة لكل أهل جيرانه، كان كخلية نحل، أطفالا يلعبون، ورجالا يعملون فى حظائر المواشى، ونسائهن يعملن فى البيت، من تجهيز الأطعمة، وعمل الخبز وغيرها، وهو تاركا اشغلات البيت لإخوته، يفعلون ما يشاؤن، بالتشاور معه أيضا، يقومون على خدمة الأرض التى يمتلكونها والتى تقدر بخمس أفدنة، لقد تربوا جميعا على نهج أبيهم الذى ترك لهم إرث من المحبة والمودة بينهم، والإعتصام بالله فى السراء والضراء، وكانوا يسيرون على ذلك، فهم كالعصب يشد بعضهم بعضا.
كانت عفاف فطنة تعلم بواطن الأمور، وتفصل بين الخير والشر، والأسود والأبيض، رأت أبيها مضجرا من ناحية هذه المسألة، لكونها أنثى وليست ذكرا كأولاد عمها، فقررت أن تتفوق فى الدراسة، وأن تثبت لأبيها أنها ليست عاجزة عن أن تكون فى مكانة مرموقة، وأن تثبت له عكس ما يظن، حتى كادت أن تعطى كل أوقاتها للدراسة وتتفوق على أقرانها الذكور مهما كانوا نابغين، لكى تقدم لأبيها الهدية التى تعد لها.
هدأ عامر عندما وجد أبنته تتفوق فى المدرسة، خصوصا على أولاد عمها، لأنهم كُسَالَا لا يعتنون بالدراسة، إنما كانوا بعيدين عن التفوق، وهذا ما أثلج صدره ونسى بأنها أنثى لا ذكرا، وكانت عفاف بعيده تماما عن شغل الدار، فقد تفرغت لدروسها فقط، لأن نساء البيت يكتفين بأنفسهم، لكثرة عددهن، فلزمت هى التفوق والمذاكرة، لذا أبعدها أبيها عن كل شئ.
فى الأعياد والمناسبات يحضرن النساء بالكعك والمأكولات إلا هى، تنتبه لمذاكرتها، وكأنها تحضر لشهادة عليا، حتى وصلت إلى الجامعة وإلتحقت بكلية الطب، كانت الفرحة لا تساع قلب والدها عامر، الذى تأيف وارتدى أبهى ثيابه يمشى فى القرية، متباهيا بها، يلقى التهانى من أهل العائلة ومن أصحابه وعشيرته، وكانت حسرة وندامة على وجوه أخوته، لخيبة أملهم فى أولادهم الذكور، لأنهم ألتحقوا بمدارس متوسطة، ولم يفلح أحد منهم كما فلحت عفاف، وتفوقت عفاف فى الجامعة، وكرمتها إدارة الجامعة لنبوغها، وذاع صيتها وسط الأوائل.
هذه الفرحة جعلت أبيها بمثابة عمدة القرية، كل أهل البلد قد أحتفوا بها وبنبوغها، وأيضا بإختيارها ضمن المتفوقين الذين سيشاركون فى تمثيل الكلية فى مؤتمر دولى، حينئذ رأى عامر أبنته وهى تكرم من السيد المحافظ الذى أعطاها درع المحافظة فى حفل أقيم وسط كوكبة من علمائها.
وبدت للبيت الكبير جوهرة ثمينة، تضيئ وتشع عليهم نورا ومهابة، وتذكر أبيها يوم أن نبذها لأنه رُزقَ بها، وعرف أن البنت كالولد، ليست كمالة عدد، وبدأ دورها فى الحياة يكتسب قيمة وتفاخر، لما لاقته من محبة الناس لها، وأيضا بتفوقها الذى جلب لها الحب والأحترام.
وكان أبيها يتفاخر بها أمام الناس، كلما وطأت قدماه فى مكان، كانت تذكر بالخير أولا، فكان صبر عامر على حُسن تربيتها تربية سليمة له قيمة فى حياته، فترجم ذلك على ما وصلت إليه الأن وحصلت على التفوق بمرتبة الشرف الأولى.
وقد هدأت الأجواء، فذكرته زوجتة، قائلة :
بسم الله الرحمن الرحيم
وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير.
قال عامر وعينيه تدمع :
صدق الله العظيم.
ميت غزال فى 2/2/2022