صَنعة عزرائيل
سيدى عزرائيل، أنا كنت
شاباً فى العشرين من عمرى، تبتسم لى الحياة بكل معانيها من حرية ومُتع، تفتح لى ذراعها لتستقبلنى
بترحاب، فكانت الحياة مُهيأة لى بالتنزة بكل ترافها، من رحلات وعلاقات حميمة مع كل
الأصدقاء من الجنسين، ألهو وألعب وأنط هنا وهناك وأسبح فى الماء، وأمارس كل الألعاب
مع أقرانى، ككل الشباب التى تفرح بشبابها،
لكن أبى كانت له طريقته كما يقولون، دقة قديمة، فكان يرفض ذلك، يرفض أن أنخرط مع
الشباب الذين هم فى سنى، بحجة أنهم متهورين ويقودننى إلى المهالك، وسيعلموننى
تعاطى السجائر والمخدرات وغيرها، حتى كنت فى هذا السن أتفهم الأمورجيداً، أفرق بين
ما هو باطل وبين ما هو حق، وعيناى كانت مصوبة على أن أبحث عن ذاتى، نعم مثل أى شاب
يخرج ليبحث عن ذاته، ويريد بناء حياته، فقد نلت شهادتى المتوسطة ولم أنتظر تعين
الحكومة، فقد عاهدت نفسى عندما أصل الى سن النُضج أخرج للعمل لأعتمد على نفسى .
كان أبى خائفاً علىَّ من الهواء الطاير،
يريدنى دائماً بجواره ، تحت عينيه لحظة
بلحظة، واهتمامه الزائد بى عن الحد المعتاد، جعلنى أصدقه وأطيع أمره، لأنه أبى وليس لى أن أخالفه فى أمر
ما، بل لم أجرء أن أقل له ولا لأمى أُف ألا تعلم قول الله تعالى :
-
( ولا تقل لهما أُفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما).
أقنعتهما بصعوبة بالغة، بأننى قد صرت شاباً وسنى يسمح بأن أفتح
بيتاً وأعول أسرة، ولست صغيراً كما
يعتقدون، وسألت نفسى :
- هل أظل هكذا
؟ ؛ رغم هذه السنين، أظل طفلاً مدللاً، ولم أتمتع بشبابى وأتمتع بالحياة التى وهبها
الله تعالى لى.
وصرت أوعظهم بما أحفظه من آيات الله البينات.
- يا أبى، وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً،
وما تدرى نفس بأى أرض تموت، إن الله عليم خبير.
رايت الدموع تظفر من عينيهما فانا احس ما يحسان به احس بخوفهما على وانا فى بلاد الغربه لاننى ولدهما الوحيد اللذان كان يتمنيانى من
الدنيا بعد عشرةاعوام من زواجهما لذلك كنت
حياتهما ودنياهما وكنت الهواء الذى يتنفسنه والماء الذى يشربنه
كان شيئا يحدثنى ان لااتركهما بعد ان ربيانى وكان شيئا اخر يدفعنى على ان
اسعى لطلب الرزق فى اى ارض كانت وكان فى
قرارة نفسى عازما على ان اسعى للبحث عن عمل
لاننى كنت ارى مرتب ابى ضئيلا من وظيفته
لان الله تعالى قال فى كتابه العزيز ..
-
ان ارضى واسعه 0
وما اوسعها وارحبها امامنا نحن الشباب لاننا لانبكى على شيىء فى هذه الارض الا والداينا ولولاهم مانتظرنا فى ارض قد ضاقت بنا ذرعا كنت ارغب فى حياه سعيده مبهجه تتسم بالامال
والطموحات استطيع ان احقق فيها ذاتى
اقنعت والدى بالسفر مع كثيرون يخرجون للبحث عن عمل بعد مداولات دامت لساعات طويله حتى وافقوا على مضض وقد لحظت الحزن يكسوا وجههما
وامى التى لم تترك النحيب منذ ان سمعت عن سفرى المفاجىء
فقلت لها مداعبا :
ساكبر لك صوره واعلقها على احد جدران الغرفه
لتمثلنى عندما اكون غائبا عن البيت.
فبدرت منها
ابتسامه ضئيله ترف على شفتيهما ومضى
ينصحنى ابى باحكام :
-
عندما تصل الى المكان الذى تذهب اليه ارسل لى رساله
للاطمئنان عليك .
-
عندما تثبت فى المكان المخصص لك اغلق نوافذه و احكم
الغطاء عليك .
-
عندما تجد صعوبه فى العمل قم بالرجوع الى البيت ولا
تتمهل لحظه واحده.
وظل فى نصحى وقتا طويلا واثناء حديثه معى ارتجفت كل اطرافى هذه اول مره اتركهما وحيدان فى المنزل يعانان
قسوه الوحده لاننى قد ادخلت عليهما
السعاده والبهجه والتسليه فى حياتهما والان ساتركهما يعانان نفس الوحده التى عانوها من
قبل تشبثوا بى عندما عانقهما للوداع وودعانى الى محطه الاتوبيس الذى استقله فتصنعت لهما الابتسامه وانا احبس فى قلبى
مراره الفراق فرجعت اليهما مهرولا لتحتضضنى
امى بشده غامره فى صدرها من هذه اللحظه احسست بحنان الام الدافىء يلهب
صدرى وكان ابى اشد حزنا لكنه تصنع امامى الثبات حتى لااهاب وحشة السفر ونحن فى هيمنه
الوداع سمعنا صوت السائق وهو يقول لنا
باقى على قيام الرحله دقيقه واحده
فقبلتهما بسرعة وحملت حقيبتى معى وصعدت الاتوبيس
الى عالم اخر00 تحرك بنا الاتوبيس وكان مقصده الاسكندريه 0 فالاسكندريه مدينه فى وطنى مصر 00وليست بعيده
بالقدر الكبير من قريتى التى اقطن فيها 00 لاننى كنت اقطن فى قريه من قرى الاقاليم
وهى قريه صغيره فى حضن الجبل بمحافظه المنيا صعيد مصر 00 استقلينا الاتوبيس وتحرك بنا 00 وادركت فى نفسى اننى وحيدا فى هذا
السفر00 رغم امتلاء الاتوبيس بالمسافرين 00 جلست على مقعدى بجوار النافذه وانا قد
خيل لى ان عيناى تسبحان فى لجه من الاحلام 00 فكنت اختلس بعض النظرات الى الطريق
لاشاهد مظاهر الطبيعه 00 وبعضا ا خر لوجوه
الركاب المسافرين معى فتاملهم 00 وكان منهم من يضحك مع زميله00 ومنهم من يهمس
للاخر00 ومنهم من يسبح فى الاحلام 00ومنهم من يركن راسه على حافه النافذه يتأمل
الطبيعه التى تمر عليه فى لحظات عابره 0
رايت حتما من انشاء زماله جديده لتكون عونا لى فى هذا السفر الواعث 00 فرحت
ابحث فى وجوه الركاب لعل يهدينى ربى الى
رفيق فى الطريق 00 تثبتت عيناى على احد
الركاب00 كان يجلس فى المقعد الاخير 00و بجواره مقعد خالى 00 وكان شابا فى مثل سنى
0 فقمت وتركت مقعدى 00 القيت عليه السلام 00 فتاخر قليلا فى الرد على 00 كان شاردا
فى تاملاته 00 جلست بجواره 00 فافاق من شروده ونظر لى نظره كأى راكب يركب بجواره 00
ودار ببصره مره اخرى الى النافذه 00
يفكر كيف سيكون الطريق 00 ايكون ممهدا
لعيشه خصبه 0 ام سيكون موحشا فى الغربه 00 ادركت ان حاله مثل حالى 00 رغم اننى كنت
لا اعانى ما أعانيه الان 00 كنت اعيش فى كنف ابى وامى سعيداهنيئا 00 مجاب الطلب 00
لاحمل على عاتقى هما 00 والذى كنت اعانيه فقط العزله 00 العزله عن الناس وتركت الاصدقاء
00 مسافراالى الحريه والانطلاق الى عالم فسيح 00 ابتسمت فى نفسى ابتسامه يبدوا
فيها التحسر 00 لااعرف اذا كنت اتحسر على الايام الماضيه 00 ام اتحسر على ماهو اتى
من عواقب ستتلقانى 00 الان و صاعدا ستبدأ حياه جديده 00 هى معاناه بلا شك 00 معناة
البعد عن ابى وامى وعن موطنى الذى تربيت فيه ونشأت 00 حياه بعيده عنهما 00 عن اليد
الحانيه التى كانت تحنو على 00 والتى كانت تلبى لى طلباتى ان شئت 0
لا اتنازل عن هذه الحياه
القادمه 00 بحلوها ومرها 00 مهما حدث فى
رحلتى العمليه 00 لاننى فضلت ان اعتمد على نفسى واكون رجلا على قدر المسئوليه 00
كباقى الشباب الذين هم فى سنى 00 يبنون مستقبلهم بانفسهم 00 بعرقهم وكدهم 00
بعد مسافه قصيره من الطريق تعرفنا على بعضنا 00
وجلسنا بعض الوقت نشكى همومنا 00 عرفتا اين كنا فى هذا السن الذى اعتبره كل منا
أنه اجمل عمر فى حياةالانسان 0
سن الشباب الذى يصبح المرءفيه يحب نفسه
وكأن الارض لم تسعه 00 متبخترا بذاته فيلهو كيفما يشاء00 يرتدى الملابس المشجره00
ويقوم بتطويل شعره تاركه مجعدا بحجة انهما موضه متغيره 00 غير النيولوك وحده 00
والتشبيه بالنساء وتشبه النساء بالرجال 00 انه عالم غريب ذو اسرار غريبه00 اخذنا
الحديث ولم ندرى بالطريق00 ففجاه وصل بنا الاتوبيس الى منتهاه 00 فهبطنا جميعا منه
00 ولم اعرف كيف ساذهب 00 وزميلى ايضا كان طريقه مثل طريقى تماما 00 فلم يعرف كيف
سيذهب 00 تركنا الاتوبيس فى مكان لانعرفه 00 وتفرق جميع الركاب الذين كانوا على
متنه من حولنا 00 ولا يبقى فى هذه اللحظه الا البحث عن مبيت 00 وقد اقتربت ظلمه
الليل تكسو الارض فوقنا00 فقولنا لانفسنا :
-
اين سنذهب الان ؟
ليس
هناك مكان نعرفه حتى نمكث فيه للغد 00 علينا ان نجد مأوى لنا00 لكى لايكون مصيرنا
النوم فى العراء 00 بعد مده من البحث
عجزنا عن تدبير مكان للمبيت 00 فصرنا فى الشارع عسى ان نجد شيئا ياوينا حتى الصباح
00 او مكانا مهجورا نستظل به 00خشية يعارضنا قطاع الطرق 00 ويكن ماكنا نخشاه 00
قابلنا فى الطريق مجموعه من الاشخاص يبدوا على هيئتهم احتراف الاجرام 00 كانوا
يتمايلون ويتضاحكون ضحكات مخجله 00
يتعاطون السجائر بشراهه 00 كانهم سكارى 00 وما ان رؤنا نحمل حقائبنا اوقافونا وهددونا باسلحه بيضاء 00 طلبوا منا ان
نعطيهم مامعنا من نقود 00 ولم يكن معى فى هذه اللحظه الا مائة جنيهات هم تحويشة
عمرى 00 وزميلى مثلى تماما 00 كما لو كنا نكمل بعضنا فى كثير من الامور00 حتى
حكايتنا كانت متشابهة الاوجهه0 0 لو صعنا
لطلبهم لنموت جوعا 00 ولو رفضنا لنموت باحد اسلحتهم 00 فكيف نتصرف الان 00 لابد ان
نرضخ بامر من الامرين 00 وكيف سنرفض ان نعطيهم النقود وهم كانوا عددهم سبعة اشخاص
كلهم مسلحون 00 ونحن شابان عزل 00 لم ينجدنا احد فى هذا الوقت المتاخر من الليل 00
الناس فى المنطقه كلهم نيام 00 والطريق يشبه المقابر لاانس ولا جن فيه 00 همس
زميلى لى فعرفت انه رضى بطلبهم 00 التفت من حولى رايت عن بعد بصيص من نور يفج من
سياره قادمه الينا فصرخت بكل قواى :
-
النجده 0
حاول احدهم ان يهجم على لاسكاتى 00
فصرخت مره ثانيه 00
-
النجده 00
رايت نور السياره يقترب منا 00 وسمعت
سرينه لسياره شرطه تضوى فى المكان 0
فشجعنى ان اعيد الصراخ مرات ومرات 00 وقوت عزيمة زميلى فى نفسه هوالاخر فصرخ معى :
-
النجده 00 النجده 00
اسرع الشباب يهربون ويختبئون فى كل مكان
00 حمدنا الله على نجدتنا التى كنا لانتوقعها 00 وسرنا فى الطريق نلتنفت من حولنا وجدنا انفسنا فى الامان 00 وبعد نهايه
الشارع وجدنا ميدان يشع منه الانوار00 لمحنا عن بعد مبنى عالى تتصدره يافته تدل
على انه لوكانده للمبيت
سالنا عن هذا الميدان
فقال احد الماره :
-
( ميدان الجمهوريه
) 0
دخلنا لوكانده وسالنا عامل الاستقبال
عن غرفه للنوم فدبر لنا غرفه بسريرين تطل على الشارع 00 ودفعا شيئا من الحساب
الجارى بعد ان تعرف عن هويتنا من خلال البطاقه التى كنا نحملها 00 ونمنا بعد ان استلقينا
بجسدناعلى مخدعناونعمنا بالراحه نفكر فى الحدث المؤلم الذى لولا عنايه الله لفقدنا
حياتنا 00 ننعم بنوم هادىء حتى الصباح0
كتب الله لنا عمرا جديدا بعد هذه الليله
المشئومه 00 وبدات حياتنا العمليه منذ هذه اللحظه 00 فالتحقنا فى عمل بعد بحث مضنى
قد ساقنا اليه 00 وهو عمل بسيط فى احدى الشركات التى تعمل فى مجال عرض السيارات 00
قمنا بمسحها وحراستها فى نفس الوقت حتى حصلنا على مرتب لاباس به من المال00 عند
رجل يبدو عليه الغنى 00 اخذنا جزء منه حتى نعود به الى ديارنا 00 والجزء الاخر
عشنا به وارسلنا الباقى لاهلينا عبر البريد
ومعه خطاب يطمئنهم علينا وعلى
سير اعمالنا 00 وكانت ترد الينا بعض
الردود من ابائنا بنصحنا وارشادنا الى
الطريق الصحيح كما كانوا يفعلون قبل سفرنا 0
مرت الايام والشهور بل سرقتنا السنين وسرقت شبابنا فى التفانى فى اعمالنا فلم نغادر
المكان حتى كبرنا وكبرت معنا مشاكلنا 0 0
واكتفينا بارسال رسائل فقط لوالدينا 00 لنخبرهم عن اخبارنا فيردون علينا بمثلها لنعرف اخبارهم 0
وبعد عده سنوات علمنا بوافتهم 00 فلم نفكر فى الرجوع الى مسقط راسنا مره
اخرى 00 وقمنا بشراء قطعه ارض بنينا عليها مسكنا لنا 00 وشاءت الظروف وتزوجت من
ابنه صاحب الشركه الذى كنا نعمل عنده 00 وزميلى هو الاخر قد تزوج من شقيقتها وعشنا سويا فى المنزلين 00 نود بعضنا
البعض وقد رزقنى الله بولد سميته (
محمد ) وزميلى ببنت غايه فى الجمال اسماها ( فاطمه
) تزوجا بعضهما بعد توافق وجد واجتها د فى الدراسه 00 وبعد ان حصلوا على اعلى
الشهادات الدراسيه 00 وانجبوا لنا الاحفاد 0
وهاانذا ابلغ من العمر الثمانين من عاما وزميلى التاسعه والسبعون 00 فكان يصغرنى بعام واحد 00 وقد اصابنتا
الشيخوخه والعجز بعد ماكنا شبابا نتمتع بالحيويه
والانطلاق فى الحياه
سيدى عزرائيل :
هذه حياتنا00 كمثل حياة البشر اجمعين 00 خلقنا الله اطوارا 00 وخلقنا من
ضعف ثم قوه ومن بعد قوه ثم شيب00 يقول الله تعالى00
00الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من
بعدضعف قوه ثم جعل من بعدقوه ضعفاوشيبه يخلق مايشاءوهوالعليم القدير00صدق الله
العظيم00
انها ياسيدى 00 رساله تسلم للاخرين حتى تتواصل
الحياه 00 فكنت طفلا اعشق الحريه 00 فصرت شابا اعشق الطموح 00 وصرت شيخا اعشق
اولادى واحفادى 000 وها قد وصلنا الى منتهى الطريق 0 اسلم رسالتى للاخرين من بعدى
ليواصلوا المهمه فى التكاثر00 بالاموال والاولاد
والثمرات00 حياه يفنى فيها المرء عمره كاملا وكانه يدخل من باب ويخرج من باب آخر، حتى ولو
عاش الدهر كله، ولم يقدم شيئاً إلا عمله
الصالح مصدقاً لقوله تعالى :
- ( إن سعيكم لشتى).
فنظر إليهم عزرائيل مبتسماً وقال :
-
هذه سنة الحياة.
وقال جل شأنه :
- ( كل نفس ذائقة الموت).
وقال تعالى :
- (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة
ولا يستقدمون).
صدق
الله العظيم .
وقد انتهيتما من مهمتكما، فدعونى أُمارس صنعتى.
( انتهــــــــــت )