الثلاثاء، 30 يونيو 2020

مقال بقلم / فوزى اسماعيل



بالأمل نحيا
نعم لولا الأمل ما كان أحدا من البشر على الأرض، فبالأمل يطول الأجل، والأمل وحده مستمد من الله عز وجل، فالله تعالى هو المتصرف الوحيد فى أمور الدنيا والأخرة، وهو بيده كل شئ، لا حيلة للأنسان من رزقه، وهذا مقدر عند الله قبل خلق الإنسان، رزقه وعمله وأجله.
فبالأمل نحيا يقينا بأن غدا سيشرق بالتفاؤل حيثما كنا، فلا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس، وعلينا كمسلمين أن نضع فى أعتبارنا بأننا لا نملك من أمرنا شيئا، لأننا مؤمنين بالقدر خيره وشره، وعلينا أن نلجأ دائما إلى الله عز وجل، فالمكتوب على الجبين لا بد وأن تراه العين، ولا نسأل إلا الله، لأن السؤال لغير الله مذلة، ولا نستعين إلا بالله، ولا ندعوا بالشفاء إلا الله، فإذا مرضت فهو يشفين، ولا ندعوا إلا لله تعالى أن يهدينا ويرشدنا إلى طريق الفلاح ، وأن يصلح من أمور ديننا ودنيانا.
وهذا مانحن فيه الآن لا بد أن نكون على يقين بأن الوباء حتما سيزول، بدعواتنا لله أن يزيح الغمة عنا وعن سائر المسلمين والمسلمات فى المشرق والمغرب، وما دومنا نعتمد على الله حق الإعتماد، ونتوكل عليه حق توكله فلا نحمل هما ولا نيأس من رحمة الله.
وبالأمل نحيا حياة سعيدة، إن كنا صالحين فأنه كان للأوبين غفورا، ونحن كبشر سببا فى عمارة الأرض، ولا يرضى لعباده الكفر، فعجبا لأمر المؤمن، كل أمره خير، إذا أصابه خير شكر فكان خير له، وإن أصابه شر صبر فكان خير له.
فإذا كان المسلم يتحلى بالتفاؤل كانت حياته مرضية عند الله، وإذا أدخل الشك واليأس والتشاؤم قلبه لكان هو الخاسر فى دنياه وأخرته، ولا بد من كل إنسان أن يتحلى بالصبر ليجتاز المحن، لأن الصبر من شيم المؤمنين، فصبر صبرا جميلا، فلا يدعوا على الإطلاق إلى التشاؤم مهما ظلمت الدنيا أمام عينية، ولا بد وأن يعمر قلبه بالإيمان أولا وأخيرا، وأن يظن فى الله خيرا.
ومن يتحلى بصفة الأمل فأنه يعمر قلبه بالإيمان والطمأنينة، فالرازق هو الله، تقول حكمة قديمة (علمت أن رزقى لا يأخذه غيرى فطمأن قلبى).. هذه الحكمة تدل على ظن العبد بربه يقينا، وأنه يعلم بأن الذى بيده الرازق هو الله، وأنه الوحيد فى أن يرزقه، ألم تعلم قول الله فى حديث قدسى : يا أبن آدم إن لم ترضى بما قسمته لك فعزتى وجلالى لأجعلنك ترقد كرقد الوحوش فى البرية، ولا ينالك منها إلا ما قد قسمته لك.
فمن يتحلى بالأمل يجد الله فى قلبه فى كل شئون الحياة ميسر أعماله، بذكر الله دائما فى السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس عند المقدرة.. فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، هذه الآية الكريم تنهى المؤمن على ألا يحزن ولا يهين نفسه لأنه الأعلى فى المنزلة عند الله سبحانه وتعالى.

السبت، 27 يونيو 2020

مقال بقلم / فوزى اسماعيل



الرئيس السيسى وقادة الغرب
منذ أن وجه الرئيس السيسي كلمته إلى الأمة بشأن ليبيا وحدود مصر الغربية، وقادة العالم تؤيده تأييدا تاما على قراره الحكيم فى التصدى للعدوان التركى على أرض ليبيا إذا لزم الأمر، فليبيا هى لها حق الجوار من الجهة الغربية لمصر، وهى عربية، كما أنها عضو فى الجامعة العربية الكائنة فى مصر، لذا كان لها الأهتمام الأول والأخير من قادات الدول العربية فى الدفاع عنها، ولطمع أردوغان فيها وفى ثرواتها جعل المنطقة مشتعلة، فقد أرسل مرتزقة حرب ليشنوا عليها هجوما مسلحا ظنا منه أنه سيستولى على أراضيها، أنما هو واهم فى الحصول على شئ منها، وإن كان يسلح المرتزقة فهو يغامر بهم لأنهم ليسوا من الجيش التركى الحقيقى له، والسؤال هنا لماذ أرسل أردوغان هؤلاء المرتزقة ولم يرسل قوات من الجيش، وكنت أرجح بأن هؤلاء خرجين سجون عنده فى تركيا، لذلك أرسلهم لتخلص منهم إذا حدث الحرب من أى جهه، لقول واحد فقط ألا وهو لا يريد المجازفة بقواته لأنهم مشغولين فى اسكات المعارضة فى تركيا، والمرتزقة هذه سيدفعون ثمن الحرب إذا واجهتهم قوات التحرير سواء من القوات المصرية أو الليبية.
ولماذ لجأ أردوغان فى التدخل فى شئون ليبيا، من الطبيعى هو يطمع فى البترول ويطمع فى ثروات ليبيا، لأن من المستحيل أن يحارب الليبين لتحريرها من طمع محتل، مازال يطمع فى أن يسيطر على ليبيا سيطرة كاملة، بإنتهاكه لقتل الأبرياء، وهذا من المستحيل أن يناله.
لقد كانت كلمة السيد الرئيس السيسى قد أزعجت أردوغان وما وراء أردوغان، فقوة مصر لا يستهان بها، وإن لم يعرف بأن الجيش المصرى قادر على دحر العدوان فليسأل ماذا جرى لداعش عندما أرسل السيسى طائرات حربية دقت وكرهم وقضت على شرهم فى دقائق معدودة.
فهذه الكلمة التى وجهها الرئيس السيسى للتركى قد جعلت من قادة الغرب يشهدون له بحكمة القول والقرار، جعلتهم يؤيدونه لمواجهة قوى الشر، حتى تستطيع القوات المسلحة المصرية بالإشتراك مع القوات الليبية أن تقف بالمرصاد لمن يؤيد اردوغان.
فتحية للرئيس السيسى وللجيش المصرى الرابض على الحدود المصرية الليبية الغربية، وكذلك الحدود الأخرى لتأمينها، وتحية لحفتر قائد الجيش الليبى وللشعب الليبى الشقيق فى ما يفعلونه من أجل ارساء السلام على أرض ليبيا، ولكل مواطن أصيل يشهد شهادة حق فى هؤلاء.
اعانهم الله وثبت خطاهم على مواجهة الشر والبلاء القادم من تركيا، حتى تعود ليبيا حرة مستقلة.


مقال بقلم / فوزى اسماعيل


وباء كرونا.. أظهر معدن الأطباء لقد أثبتت كورونا معدن وأصل الأطباء خاصه، فالأطباء يحملون رسالة سامية تخدم الوطن، ولكن وباء كورونا الجامح قد ظهر معادنهم الحقيقة فى هذه المحنة الفارقة من البلاد، وأنه على قدر مسؤلياتهم على قدر جهدم لتقديم الخدمة للمرضى، على قدر أبتعادهم عن خدمة مجتمعهم، فمنهم من تقدم لأداء واجبهم على أكمل وجه، مهما كانت التضحيات، فقد قاموا بواجبهم وهم يعلمون خطورة هذا الوباء الداهم، والذى من الممكن أن يكونوا ضحايا من ضحاياه شأنهم شأن المرضى تماما، لأنهم هم المخالطون الأوائل لمرضى الكورونا، وقد حدث بالفعل وراح منهم ضحايا، لكنهم أدوا واجبهم السامية تجاه المهنة التى حلفوا من أجلها اليمين، فحتسبوا عند الله من الشهداء. ليس جميعهم فحسب، عملا بالمثل القائل، صوابع اليد ليست كبعضها البعض، فهناك أطباء أخرين فى المقابل كادوا أن يتخلوا عن المهنة خوفا من العدوى، فقد تخلوا عن مهامهم ولم يتقدموا بالكشف عن مريض مهما كان مرضه حتى ولو بسيط، رفضوا تقديم الواجب نحو مرضاهم، وفضلوا البقاء فى المنزل، ويوجد من هذا النوع الكثير، حتى واجبهم لم يؤدوه. كان ولابد من أطباء الصدر أن يكونوا فى المقدمة، وأن يتميزوا بالنشاط أكثر من الأطباء أصحاب التخصصات الأخرى، لأن أصحاب مرضى الصدر هم أكثر عرضة لإلتقاط وباء كورونا، ولكن وجدنا العكس، تخلوا أطباء مرضى الصدر عن مهامهم، وتركوا الدفة لأطباء الباطنة والقلب والتخصصات الأخرى، لتكن مصيبتهم مصيبة، والمصيبة الأكبر هى تخليهم عن عملهم المطلوب، مكتفين بأداء عملهم إداريا فقط، من خلال وظيفتهم فى المستشفيات، عليه فقط مباشرة العمل إداريا، لكونه يخشى الإصابة بالمرض. إذ أن الأطباء الذين يمارسون العمليات الجراحية، أو عمليات الفم والأسنان لا يخشون شيئا مستمرين فى عملهم، ماداموا يقومون بالتاكيد على الوقاية اللازمة، والتعقيم المستمر للأجهزة والأماكن الخاصة بالكشف، وأيضا اتباع الإرشادات التى تقيهم من الأصابة المباشرة، ولم يتوانوا فى عملهم من أجل تخفيف المرض عن المرضى. الأطباء منذ أن ظهر فيروس كورونا وهم يتواجدون فى المستشفيات الحكومية، رغم علمهم بأنهم يقومون بواجبات خطيرة للغاية ضد هذا المرض اللعين، وأنهم من الممكن فى أية لحظة سيكون مصيرهم الموت لقدر الله، والجميع يعلم جيدا قدر ما يقومون به تجاه المرضى المصابين بالفيروس. ولكن إذا ذهب مريض إلى طبيب ما بالأخص لطبيب الصدر ليوقع الكشف عليه، فيمتنع الطبيب ذلك، فما كان عقابه فى هذه الحالة، هل هؤلاء يقال عنهم من المجاهدين، أم أنهم لا يستحقون لقب طبيب. من رأيى أن الأطباء يؤدون رسالة سامية مثله مثل المحاربين فى ميدان القتال تماما، فإذا كان المقاتل هذا يعتقد أنه سيُقتل ولذا لم يذهب إلى المعركة لكان من حق قادته أن يوقع عليه عقوبة الإعدام، هذا شأن الأطباء أيضا، فالذين يمتنعون عن أداء واجبهم على النقابة أن تنزع منه لقب الطبيب فورا، وأن يقع عليه عقوبة تقدرها النقابة، لأنه بذلك تقاعس عن حق المجتمع، وكان فى هذه الحالة خونة العهد، خونة حلف اليمين وقت تخرجه، والذى أقسم من خلاله أن يؤدى واجبه نجو مرضاه فى كل الظروف، شأنه شأن الشرطى تماما، هذه الظروف التى كشفت عن معادنهم، الأصيل منهم، و...........وللأسف لا معنى للوصف ولا شئ غير ..(الخسيس). حفظ الله مصر.

الاثنين، 22 يونيو 2020

مقال بقلم / فوزى اسماعيل



عجبى لكل زمن له تقليعه
منذ سنوات قليلة كان جمهور المشاهدين للأغنية العربية مفتونا بالمطرب الشعبى شعبان عبد الرحيم، فقد تعاطفوا معه فى طريقة ملابسة التى بدت للكثير بالسخرية، وطريقة غناه المختلفة عن جميع مطربى النوع الشعبى، وما زال صدى أغانيه يعشقه الشباب حتى الآن، وعندما تجد الشباب الناهض فى كل المواقف يردد أغانيه ويتمايل كما كان يفعل، سواء فى الحفلات الساهرة أو عبر أجهزة الايفون التى يحملونها.
وقد عمل منه الإعلام المصرى أسطورة لم ولن تكن فى مطرب قبله ولا بعده، حيث هاروه استضافات حتى يعرفوا منه طريقة عمل ملابسه وطريقة أغانيه، حتى أفرغ ما فى صدره من حكايات حتى طلبه المنتجون فى أفلامهم ومسرحياتهم، وكان الوجهه الأولى لمصر فى الحديث عنه عبر وسائل الإعلام.
وبعد وفاته صمت الحى اللاتينى قليلا، حتى صاح شاكوش فاجأة ليوقظ النائم هو وبيكا ومحمد رمضان أيضا، هؤلاء جهابزة الأغنية العربية فى ذلك الزمان، وقاموا بالهوجة كهوجة عرابى، والتى تحدثت عنها الفئات الشعبية بأنها تفوقت على شعبان عبد الرحيم، وعادوا جميعا يصرخون بكلمات هذه الأغانى للسادة المبجلين سلفا ذكرهم.
كما إن الأغنية الشعبية الآن هى المطلب الوحيد فى جميع حفلات الشباب خاصة والتى طغت فوق الجميع، لكونها نوعا يرقص عليها المشغوفين بهز الوسط، وهذا أمر طبيعى يتبع عند الشعب المصرى خصوصا أصحاب الحفلات الصاخبة، والذى يميل إلى هذه النوعية بالذات من تلقاء نفسه، وليس لهؤلاء الثلاثة فقط، وأنما هناك على الساحة الغنائية كثيرون من نساء ورجال وحتى صبية ما زالوا صغارا ولهم أصوات تسمع فى هذا المجال.
وكأن نقابة الموسيقيين تطرمخ أذنهم حتى تقول أتركوهم وشأنهم ما داموا يغنون بتصاريح، وماداموا ينتفعون من ورائهم، فليس المهم أصواتهم المهم مايدفعونه وتعمر جيوبهم، وهو المطلوب فى المقام الأول، وكل من هب ودب وعارف كلمتين يقولهم بأى طريقة كانت أمام أكسترا أو طبلة، لتنقله الكاميرات فيكون ضيفا ثقيلا أو خفيفا على المشاهدين، فأنت رضيت أم لم ترضى سيكتحمون عليك خلوتك وينغصون عليك أيضا راحتك عبر شاشات التلفاز أو الموبايلات أو الأنترنت.
هذه النوعية من الأغانى الخليعة أولا والأصوات الهزيلة ثانيا هى ملاذ الشباب فى عقر داره والذى يلهث وراء الموضة وتقاليعها الفارغة، والذين نصادفهم كثيرا فى جميع الاماكن مفتخرا من يجامل الفنان كذا ومن يكتب عن الفنان كذا، وما أكثرهم على صفحات التواصل الإجتماعى وعلى اليوتيوب وياقلبى لا تحزن.
عدد المشاهدات بالملايين، كالعدد فى الليمون كما يقولون، عدد الإشتراكات تزيد عن الملايين الملايين، لماذا لصوت شاكوش وبيكا جهابزة الغناء فى مصر لم تنجب غيرهم الأمة.
ياله من زمن عجيب وغريب، يلهثون وراء الأغنيات بمختلف أنواعها، ولا يلهثون وراء بحث لإستكشاف وباء كورونا، عكس العالم الغربى الذى منذ تفشى وباء الكورونا لا يملون ولا يكلون عن البحث عن دواء لهذا المرض الخطير، كلٍ فى معمله يتسابق ليحصل على المركز الأول فى أكتشاف الدواء الذى سيخدم البشرية حتما، ويكون لهم السبق فى هذا الإنجاز التاريخى.
فهل ستوافقنى بأن لكل زمن تقليعه.

السبت، 20 يونيو 2020



 
روايـة..
      الحياة فى ضوء خافت
              تأليــف
                      فوزى يوسف إسماعيل
                                                    

نشرت فى ديسمبر 2012
عن كتاب جماعة رؤى 

                                                                                        -1-

احتوت القريه مختلف الفئات من الناس البسطاء،فمنذ أن عرف أهلها كيف يعاملون بعضهم البعض،وهم يتميزون بالطيبه وحسن المعامله،بدايتا من الصغير حتى الكبير،حتى المرأه لاتخرج
من دارها الا بعد اذن من زوجها،وعادتا ما تساعد زوجها فى فلاحة أرضه،وتقوم على خدمة الدارعلى أكمل وجه.
الجميع فى القريه متعاونون مع بعضهم البعض فى عمل أو فى غيره ، في الســـراء والضـــراء،
  وكأنما هم جسد واحد يشد بعضهم بعضا، تلك هى ميزات القرية الطيبة ، وكانت فاتن فى عمر الصبا تتمتع بجمال لا بأس به، قوامها ممشوق مالفوف ،فصيحة اللسان عندما تتحدث مع الآخرين ،فيها من الصفات ما ليس فى كثير من أقرانها،  لكن الذى كان يألمها  أنها بنت العجوزالضرير، في سن الستين كفيفة البصر، تتنقل على عصا تمسكها في يدها دائما حيثما ذهبت.
عمى بصرها جعلها قليلة الحركه ، أشتعل رأسها شيبا وملاء وجهها التجاعيد ،فغابت ملامح عنها أبنتها فاتن ،فلا تعلم ما اذا فعلت بها الايام، الشئ الوحيد الذى تعلمه فيها هو صوتها فقط، صوتها الذى لم يتغير فى أذنها.
فمنذ ثلاثة أشهر من ولادة فاتن أصابت العجوز العماء ,وفقدت بصرها فأقعدتها عن الحركه وجعلت حياتها ظلاما وبؤسا .
لا فرق عندها بين نهار وليل فكلاهما مظلم ومعتم أمام عينيها ،رزقت بفتاه واحده هى فاتن ,ومات زوجها وهى فى تلك السن البائس ,السن الذى أصابه الهزال والتعب , بجانب عمائها الذي شل من حركاتها أكثر ,فكان الزوج يعينها على كسب العيش رغم أنه يكسب قوت يومه بيومه ,يكد ويكدح فى أرض الفلاحين القريه.
ولكن القدر لم يمهله ،مات وأمسكت العجوز بزمام الأمور, لتفعل ما كان يفعل زوجها، فقامت بتربيه أبنتها فاتن، سار الحمل على عاتقها ثقيلا,فليس لها مورد رزق أخر تأتى منه بالطعام,أو مرتب شهرى، لشراء مستلزمات أبنتها فاتن ،من ملبس ومشرب ومأكل .
وكأنما ازدادت ظلمتها بظلمه أخرى ,أفظع وأشد،فهي تستطيع العيش بعتمة عينيها لكنها لا تستطيع العيش ثانيه واحده من غير طعام .
كان جيرانها القريبون منها يرون حياتها البائسة, فهم أيضا ضعفاء , وليس لهم مورد رزق عندهم قليل ما يحتاجون اليه ،هم الآخرون يريدون المساعده مثلها,لأن متطلبات الحياة تزداد يوما بعد يوم عليهم ،للأنهم يعولون أولاد وأسر ،كانوا يساعدونها بقليل من الطعام الفائض عندهم .
 يمدون لها يد العون ,فمنهم من يفيض عنـده مأكــــل ومنهم من يفيض عنده هدمه قديمه، وغير ذلك من أشياء أخرى لا يحتاجون اليها،فكانوا يحملـونها اليها لتساعدها على مأساتها .
وكانت أم فاتن تبكى بقلبها قبل عينيها, عندما يدخل عليها أحد من أهل القــريه بطعــام أوشــراب ،متحسره على عجزها فى عدم السعى لكسب رزقها بنفسها كما كانت تفعل قبل ذلك.
لاحظ أهل القريه غضبها مما يفعلونه معها، ولكن ليس هنـاك حلا أخـــر حتى تعيـــــش أم فاتـــن وأبنتهــا ويستمران على قيــــد الحياه.
وقد علم أيضا الشيخ عبدالله شيخ وخطيب الجامع الكبير الذى يتوسط القريه ,فحــزن لما سمــــع  ،وظل يبحث عن بديل أخر لتوفير مجيئ الناس اليها كل يوم فى العشاء، وهم يحملــــــون الأوانى بالاطعمه ،كأنما تحمل مسؤليتها من الأن،وعليه أن يدرس الأمر مع حضرة العمده الذى يشــاركه الرآى فى الامور الهامه التى تهم القريه.
- محقه أم فاتن فيما تقول.
وقد عمل الشيخ عبدالله والعمده ما فى وسعهما لكى يجدوا البديـــل الذى يمنــــع تأذم أم فاتن من دخول النساء عليها حاملين الطعام كل يوم بعـــد العشاء،  ولكن هــــل كانوا يوفرون لهم عمــــلا يعملون فيه ,ويكسبون من وراءه المال الذى يحتجونه.
كيف و العجوز أم فاتن ضريره وأبنتـــا فاتن الصغيره التى لاتستطيع تحمـــــل مشقه العمــل،واذا أستطاعوا أن يقومون بأى عمل،فما هو هذا العمل من أساسه ،  فلا يوجـــد فى القريــه عمــل الا الحرث والزرع الارض ,وفاتن ليس لها فى هذه المهنه الشاقه .
لابد من مصدر رزق آخر.
ولم يهتدى الشيخ عبد الله والعمده لأى فكرة فى  رأسهمـا ،حتى أمضــوا وقتـــــا طويلا يتـــراؤن ويتشاورون فى مشكلتها،ونهض الشيخ عبد الله من مجلس العمده وذهـــب الى المسجد لقضـــاء صلاه العشـاء الذى حان وقتها, ويأم المصلين كعادته ,وعندما كان يخلع حذائه على باب المسجد ليضعــه فى المكــــان المخصص لوضـــع الأحذيه فى ركـــن المسجد ، اذ ببصـــره يتوقـــف على
صنـــــدوق الجامع الموضوع على المقعد الخشبى فى مدخـل المسجد للتبرعات التي ترد اليه من المصلين وغيرهــم حتى تساعدهم على ترميم المسجد من تلفيات .
حينذاك طرأت على ذهنه فكره قد سكنت رأسه، ولم يترجمها لأهالى القريه الا بعد قضاءالفريضه التى وجبت ونادى المؤذن باقامتها .
وامتلأ ساحة المسجد بالمصلين من  مختلف الأعمار، وأم بالمصلين حتى فرغ من الصلاه ، وبعد انتهاء قضاء الفريضه استبقى الناس قليلا لكى ييعرض عليهم فكرته ، وقبل أن يقول شيئا   جلس يحث الناس على فعل الخيرات ومساعدة المحتاجين فى خطبه بسيطه،شملت آيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنه النبويه الشريفه ، حتى تستيقظ مشاعرهم.
وبعد أن سمعوا الحديث الذى مس قلوبهم،وتمعنوا كلماته الموجزه والمؤثره، أفصح عن اقتراحه  بانشاء صندوق صغير خشبى مثل الصندوق الموضوع فى مدخل المسجد للتبرعات,على أن يوضع بجانب هذا الصندوق، ويكتب عليه اسم العجوز أم فاتن، ليتبرع فيه أوفى الصندوق الأخر فاعلى الخير وأصحاب القلوب الرحيمه .
كان اقتراح الفكره التى قالها الشيخ عبدالله للمصلين قد لاقت ترحيبا واعجابا منهم، لتكون حلا للأم العجوز وأبنتها ،مما رحب بهذا الاقتراح كثيرا من أهل القريه من المصلين وغيرهم،ومنهم أيضا العمده الذى لم يحالفه الحظ فى سماعها لأنه كان مشغولا فى حل قضية بين زوج وزوجه من أهل القريه،كانوا على وشك الطلاق،وشجع الفكره الشيخ عبدالله الذى أتى بنجار من القرية ومعه عدته ليصنع صندوقا مماثلا كصندوق الجامع الذى صنعه من قبل .
وظل النجارمنهمكا فى عمله حتى أنتهى منه، ووضع عليه قفلا بمفتاحين حتى يغلقه  لكى لا يعلم أحد ما بداخله من مال فيطمع فيه ،وتوسوس له نفسه على قطع فعل  الخير.
 وبعد صلاة الجمعه من كل أسبوع يحمله الشيخ عبدالله وبصحبته رجلين أخرين من رجال القريه الأتقياء الموثوق فيهم ذاهبين به الى أم فاتن ،بعدما أعطاها مفتاحا أخر لكى لا يفتحه غيرها.
 وقد أعتاد المصلين فى كل فريضه أن يضعوا فيه قليلا من المال لمساعدة أم فاتن،مثلما يضعون فى صندوق الجامع،لأنهم يعلمون أن فعل الخيرهو الباقى لا يريدون به الا وجه الله عــــز وجــل.
تكرر ذلك عدة أسابيع حتى أعان الأم العجوز على احتياجاتها هى وأبنتها التى أستطاعت أن تشترى متطلبات مدرستها التي كادت أن تتعثر فيها .
ولكن لم ترضي فاتن عن هذا العمل ،فهي أعتبرته أحسان وزكاه من الناس،حتى ولو أدر عليهما بمال وفير،لذلك ظلت تفكر مره بعد مره،لم تعرف هل سيبقى على هذا الحال أم ستنقطع عنهم المعونه. 
وقضيت ليلتها تفكر، ولم تأخذ قرار فى هذه الظروف التى وضعتها فيها القدر، وهى فى أمس الحاجه الى المال.
 فكيف تقطع هذه المعونه التى تأتيها كل أسبوع دون عناء.
وكيف ترفضها وهى لاحيله لها.
- اذا عرضت سأمنع مبلغا يأتى لى ولأمى الضريره.
ـ كيف أتصرف في هذا المأزق وأنا أحتاج لمال أكمل به دراستي.
ـ فانا فتاه لست كالولد أهم بعمل شاق ليكون لنا مصدر رزق يعيننى على الحياه أو ثروه تركها لنا أبى بعد وفاته.
ـ فانا وأمى لا نملك أى حيله .
لا أخ لنا يساعدنا  .
 ولاعمل نأكل منه .
 سأترك هذا الأمر جانبا بعض الشئ، ولا أنه  سيكلفنى الكثير , لا أسطتيع  بعد اليوم أن أتحدث مع صبى أو صبيه فى القريه حتى لا يعرنى بما ناخذه من الصندوق،سأتظاهر باالأبتسامة الكاذبة لمن سبّ إلىّ ,أو قال لى شيئا يغضبنى ،أو أصتنع أبتسامه شاحبه على شفتى حتى ترتسم على وجهى، لكى يصدقها الناس وأنا بداخلى  أذوق مرارة اليأس تمزق قلبى .
ظلت الهواجس تطرأ على ذهنها حتى كادت رأسها أن تنفجر،فأوشكت على الأنهيار.
 ـ ماذا أفعل ؟!
 لابد أن يكون لى مكانا بين الناس لأحظى باحترامهم.
 ولم تجد رداعلى هذه الأسئله التى لم تترك رأسها ،حتى داعب النوم جفونها , ونامت بعد عناء طويل من التفكير , وغطت فى النوم كأنها لا تنم منذ فتره طويله، ودمس الليل بظلامه ,فهب نسيم يداعب الأشجار بأصوات همس وشجون، والنافذة المكسوره على غرفتها قد فتحتها الرياح المهبه على مصراعيه، ليدخل منه الهواء فيطفئ المشعل الموقود بجانبها, حتى أظلمت الغرفه بظلام دامس لا تنيره الا هفوات البرق والرعد، وبرد جسدها تحت الغطاء المهلهل القديم.                           
                                   
                                -2-
نادى المؤذن لصلاه الفجر فخرج كثيرا من الناس لقضاء الفريضه،وكان فى هذا الوقت قد هبت النسائم على القريه تهز الاشجار وكأنها تداعبها بلطف، فبدت الناس تثقل من ملابسها وخرج ابراهيم الصغير الذى بلغ السابعه من عمره , ضمن هؤلاء الذين ذهبوا إلى المسجد ليصلى معهم وأمهم الشيخ عبدالله كعادته ،وبعد أن قضوا الفريضه أخذ إبراهيم " الناي" معه وذهب إلى جذع شجره الجميز الكبيره الضخمه التى إعتاد الجلوس تحتها منذ صغره ,ينفخ فى الناى ويتخذه أله موسيقيه ، فكانت هوايته المفضله التي تسعده وتسعد الآخرين من الناس عندما يهم بالعزف عليها،وكان يمارسها كل يوم بعد صلاة الفجر , وأيضا عند غروب الشمس، يسمعونه أهل القريه فيفرحون ويبتهجون عندما يالقونه، فانهم يجذبهم النغمات الجميلة حتى يبدؤا يومهم في نشاط دائم وحيوية لا تنتهي  .
وكانت الجميزة تطل على طريق يمرون من علية من يذهب الى أرضة للعمل فيها قبل لسعة الشمس وحرقتها، وصوت الناى يسمعة من يمرون من حولة لكى يتمتعون بنغمات موسيقية، وقد ينسون ما يذهبون من أجلة حتى يكاد يضيع عنهم اليوم فى الاشتغال فى الارض .
حتى قال له راجلا ذات مرة :
- يا ابراهيم انى لا أقاوم عزفك ,حتى نسيت العمل فى أرضى .. وكادت أن تبور.
ضحك ابراهيم قائلا :
- والله لقد عشقت هذا  الناى .. حتى صار فى دمى. ر
فابتسم الرجل أبسامة خفيفة ثم الفأس على كتفة .
ــ وأنا كذالك , وأتنبئ لك بمستقبل باهر .
ثم اخذ الرجل  فأسة  قاصدا أرضة لكى يتم عملة فى الوقت المتبقى من اليوم .
وقد  ظهرا قرص الشمس فى السماء ،وبدت الدنيا مضاءه بنور ربها , وحضر أهل القرية كل فى عملة ، فمهم من يسقى الزرع، ومنهم من يحرث الارض , حتى أمتلآءت الارض بأصحابها يزرعون  ويقلعون وكأنهم فى خلية متعاونون.
ومن سحر الطبيعة وجداول الماء التى تصب فى الارض العطشى، أخذ ابراهيم يتأمل الفتيات التى تحملن " البلاصات" لإمتلاءها من البحر، ينزلون فى سرب كأنهم مصتفين في صف واحد متساوي خلف بعضهم  البعض،مما جعل قلبة يحس بإحساس الفرحة والنشوة ,ويده تهمس على الناى ليعيد العزف مرة أخرى، وسمعتة الفتيات فنشرح صدورهن إيتهاجا وفرحة فى مشهد غنائى  ايقاعى يرددون الغنوة القديمة " نازلة أدلع أملى القلل ".
حتى أنتهين من أمتلاء بلاصاتهم بالماء حاملينها عائدين الى ديارهم .
وبعد أن أنتهى ابراهيم من هذه اللحظات الجميلة التى أعتاد أن يحضرها بعد كل صلاة  فجر حتى  يتأمل قرص الشمس وهو يخرج من الارض الى السماء فى منظر بديع ،ويرى أيضا النهار وهو يشق الظلام ،فيتأمل ويراقب معجزة الله فى كونه .
- ولله ملك السموات والارض وهو العزيز الغفور.
ثم اخذ الناى ورجع هو أيضا الى داره سعيد ا فرحا بما لاقاه من محبة ومعاملة حسنة من أهل القرية , وأطمان قلبة حامد أ شاكرا ربة  على نعمتة التى أنعمها عليه.
لأنه يتيم الاب والام ولا يلاقى العطف والحنان منذ وافاتهم إلا من أهل قريتة التى أحبوه وجعلوه واحدا منهم، وعشقوا أيضا عزفة على ناية .
 وابراهيم لا يلتحق باتعليم كباقى صغار القرية , لكنة كان نابغا سريع البديهة ،وأتجة الى مساعدة أهلة، فكان عندما كان يجد رجلا أو أمرأة يعملن فى حقلهم الا ونزل على الفور لمساعدتهم يده بيدهم حتى اذا طلب الطعام طلبه ،يعتبر نفسة واحدا  منهم ، واحدا لكل بيت فى القرية، والكبيروالصغير يعتبرونة أيضا أخا لهم ,فلذلك عاملوه الجميع معامله خاصه لانه يحب لهم الخيردائما , يزور من مرض ويسأل عن الغائب،حتى أحبه الكبير والصغير والنساء أيضا والاطفال الذين أعتادوا أن يجالسوه فى سمرهم وفرحهم.
والجميع يطلبونه إذا حدث عندهم فرحا أو مناسبة سعيدة، حتى يشدوا لهم بنايه ,ويحظى بما لـذا وطاب من مأكل ومشرب،وكذلك يكون له نصيبا فى ملبس جديد، وابراهيم لا يرفـــض  طلـب من دعاه.
على الفور يلبى طلبه ،ويقضى يومه فى سعادة وفرح،عمّ الخير على القرية الطيبة كلها،وفرح أهلها بزيادة المحصول ,ببركة ابراهيم التى تحل على الارض التى ينزلها لمساعدة أصحابها لأنه محبوب وهادئ الطباع ،قلبه خالى من كل شوائب الشر والبغضاء على الناس ، يعاملهم و كأنهم من دمه، وساعده على ذلك مواظبته على الصلاة ،فهو يذهب الى المسجد فى كل وقت للصلاه وقد إعتاد الجلوس فى الصف الأول ،يستمع لشرح الشيخ عبدالله وهويشرح تفسير القرأن وفقه السنه كل يوم,وفى يوم قد  خرجوا للصلاة كعادتهم ،وبعد أن أنتهى الشيخ عبدالله من إلقاء المحاضرة التى كانت تدور حول الصدق فى الأمانة، وحث الجالسين من حوله على فعل الخير فى حديث أثر به على قلوبهم ،حتى دمعت أعيونهم وقد خرجت همهمات الرجال قائلين :
- الله أكبر .. سبحان الله .. سبحان الله ..
رنت هذه الكلمات جدران المسجد من شدة وعظ الشيخ عبد الله لهم،وبد ا الحديث الذى ألقاه الشيخ على مسامعهم جميعا جميلا ،حتى جعلهم  يتمتمون بتسابيح وحمد لله تعالى لكى ينالوا رضاه ,وكأن قلوبهم قد رقت وأقشعرت لفعل الخير ،متعاهدين بتقديم المساعده للمحتاجين ،والغير قادرين على كسب العيش حتى يعيشوا بينهم فى أمن وسلام.
وبعد أن أنتهى الشيخ من الدرس , دعى ابراهيم ليأتى اليه , فقام متوثبا بين يديه , ربت على كتفة الشيخ عبد الله قائلا:
-  وهذا مثال للامانه ..إبراهيم أبن الحبيب عبد الحق .
- لقد تمرت فيه تربية ابيه ..لآنه كان رجلأ صالح وتقى يحب الخير كما تفعل أنت الان يا ابراهيم.
دمعت عين ابراهيم وقال:
- فقدت أبا واحدا.. وكسبت أن تكون ولدا لكل كبيرا فى القرية ..
قال الشيخ عبد الله:
- لأنك يا ابراهيم تستحق أن تعامل معاملة طيبة .
 فشعر ايراهيم فى هذه اللحظة بالطمئنينة والسكينة فى قلبة ,وغمرتة فرحة مابعدها فرحة,من كلام الشيخ عبدالله شيخ الجامع، أمام الحاضرين الذين يملؤن الجامع عن أخره .
 وحاول ابراهيم أن يعبر عن فرحتة , لكن هاب جمع الناس الكثرون ,ففضل ينظر ا ان ينظراليهم بنظرة رضا ، وترقرقت عيناه  وأجهش بالبكاء ، بعد ما أحــس بحب  الناس له.
أمسكة الشيخ من معصمة قائلا :
- ما يبكيك يا إبراهيم  ؟!
قال ابراهيم متأثرا :
- أبكى من شدة حبكم لى ووقوفكم بجانبى.. وأنا يتيم الاب والام .
قال له الشيخ عبدا لله بسعادة بالغة :
- والله لمكانتك عندنا كبيرة رغم صغرسنك.
وقد عرف ابراهيم مكانته الحقيقيه بينهمم،بعدما وجد الوجوه البشوشه التى تعامله وكأنه أبنا لهم من أصلابهم،وغمرته الفرحه والسعاده لايستطيع وصفها.
وكانوا الجميع يحاورونه وكأنه رجل مخضرم ومطلعا على بواطن الامور،مر وقتا طويلا وهم يقدمون له كل الحب والتقدير حتى داهمهم الوقت وجاء وقت الصلاه ،فنادى المؤذن لاقامتها،  فوقف المصلين لأدائها فى خشوع , تنهمر دموعهم على الحصير الذى يفترش به بهو المسجد، وبعد أن أنتهوا من الصلاه صافحه الجميع رجالا وأطفالا يظهرون له محبتهم ، حتى أنفض المسجد منهم ، ولم يبقى الا ابراهيم والشيخ عبدالله الذين أخذوا نعالهم عائدين الى ديارهم، لا يحيطهم الا الفرح والسرور.
                                           *             *             *

                                                       -3-
 الاطفال الصغار يهللون يصفقون ويصدرون صيحات فرح , يجبون حارات القرية معبرين عن وبهجتهم لدخول الكهرباء لهذه القرية المنعدمة من الخدمات ، جرارات حرث تشد من خلفها
 أعمدة حديدية , تضعها فى جرن فضاء لحين توزيعها فى الاماكن المخصصة لها .
مشرف العمال يعطى أوامرة للعمال التى تعمل تحت يده ،ورجال وشباب كثيرون هنا وهناك يعملون يدا بيد فى حماس وحيويه ، أهالى القرية يعملن الاطعمة لعمال الكهرباء .
العمدة وشيخ الغفر وشيوخ البلد حتى الاهالى الفقراء يتنوعون فى الاطعمة ،جاء وقت الغذاء ولم يجدوا مكانا يضعون فيه كل هذه الصوانى،الجميع يبحثون عن مكان واسع لقضاء الغذاء فيه، لم يجدوا هذا المكان إلا دوار العمدة الفسيح الذى يسع الكثير والكثير،اتفق الجميع عليه، فقامت النساء تحملن الصوانى المملوءة بالاطعمة الى هناك,فقد جاءت الصوانى مكللة بلحوم الأوزوالبط والدجاج.
تراصت الصوانى بجانب بعضها جنبا الى جنب , انتظارا لقدوم العمال من موقع العمل ،ثم دخلت النساء  غرفة الحرملك الموجوده داخل الدوار، يعدون المشروبات , والفتيات ياتين بصناديق الصاقع من عند "عم أمين " البقال، ما أسعده اليوم ، اليوم سيبيع أكثر من الأيام الماضيه ,كثيرا ما  جد عليه أيام لا يبيع  أى شئ حتى فكر ذات يوم  فى  غلق  الدكان .
اليوم سيعوض ما فاته , ويرجع الى زوجتة مكبور الخاطر , من ثمن الصناديق التى اشتراها العمدة لعمال الكهرباء، الربح الذى يأتى من بيع الصناديق لعمال الكهرباء سيكون مبلغا لا بأس به.
عندما وصلت الصناديق الى الدوار  على رؤس الفتيات الصغار ،أستقبلها ابراهيم الذى تولى تنظيم المائده بنفسه .
ورص الزجاجات بجانب الصوانى بعدد عمال الكهرباء،  وتبقى الذائد فى الصناديق لحين طلبــها.
ثم قال ابراهيم للعمدة :
ـ أتعلم ما هى مشكلاتنا يا حضرة العمدة ؟!
قال العمدة :
- نعم أعرف .. وأعلم جيدا أنها الكهرباء .
قاطعمه ابراهيم قائلا :
- ليست مشكلاتنا مقصوره على الكهرباء وحدها .. بل على اشياء كثيرة ..مثل الماء النظيف والمجارى والتعليم و...و...
  تمتم العمدة وكأنة وقع فى بئر عميق لا يقدر على الخروج منه.
- تقصد الخدمات .
قال ابراهيم :
- نعم ويجب أن نضع تحتها مائة خط .. لأن  دون الخدملت لا نستطيع أن نعيش أو نكون محسوبين من ضمن الاحياء .. كالذين يعشون فى الحضر .. فإن بلدتنا هذة تنقصها المدارس والمستشفيات الصحية والجامعات والأئمه لكى يحثوا الناس على أتباع الدين وتفتح عقولهم .
ضحك العمدة  مقهقها قائلا :
ـ اليوم دخلت الكهرباء .. غدا ستدخل المياه..
ـ لكن يا حضرت العمدة , لا تنسى أن يوم الحكومه بسنه..
 والرويتن يعطل الطريق السائر ..
نظر إلية العمدة فى أعجاب شديد وقال :
- ما أراك إلا رجلا صغير .. عقل رجل فى جسم صغير.
ولابد من أن تذهب الى المدرسة لتتعلم فإنك تفهم كل شئ .. وعلى درايه بمن حولك..
إبتسم إبراهيم فى سعادة وقال:
-الله يخليك ويطول لنا فى عمرك يا حضرة العمدة ..
وبعد أنتهاء الحديث بينهما .. إلتفت العمدة من حوله، وجد الصوانى قد رصت فى أماكنها.
- أخذنا الكلام عن مشاكل القرية ونسينا الصوانى ..
ثم ذهبا الاثنين معا الى الصوانى المتراصه , واذا بعمال الكهرباء يأتون واحدا خلف الأخر , كل ثلاثة يجلسون حول صانيه , وقد وقف ابراهيم يخدم  عليهم، يسقى العطشان ويوزع الارغفه بين الصوانى .
والعمدة أيضا يقف بجانبهم يبدى  برأيه  فى توزيع الاطعمه , ثم أمر الغفر بإحضار بإناء نحاسي كبير به لحم من داخل الدوار،ليوزعه عليهم، وبالفعل  جاءو به ورائحتها تفوح منها .
كشف ابراهيم الغطاء  لكى يقوم بالتوزيع عليهم , وجاءت المغارف والصحون وقد قام هو والعمدة بملئ الصحون بالحم والشربة الساخنة , ليضعونها أمام كل عامل .
فى أروقة الدوار حضرا عددا من الصبيه الصغار، وقد وقفوا بجوار العمال وهم يأكلون ، فأمر العمدة بإبقائهم حتى أجلسهم، وأمر بإحضار صنيه توضع أمامهم, ففرحت الصبيه بما فعله العمدة , وجلسوا يأكلون فى سعادة حول المائده التى تحوى من أصناف الطعام أشكالا مختلفه،تعلوا وجوههم البشاشه والضحكات .
حضرا أيضا الشيخ عبدالله أمام الجامع الى الدوار , وتوجه به العمدة الى غرفة الضيافة الكائنة  فى مقدمة الدوار، والمعده خصيصا للزوار الوافدين .
شمر الشيخ عبد الله أكمام يده  الطويل الى أن وصل الى كوعه حت  لا ينغمس  فى اناء  الشربه الساخن، وبجانبه  العمدة يتناولان الطعام الشهى، تذكر العمده ابراهيم الصغيرفنهض و نادى عليه ،وحضرا على الفور فى بداية الطعام، وقاموا بتقطيع الدجاج المحمر والارز المعمر المعد فى الفرن البلدى, بأكلون بلاهواده حتى شبعوا .
وأمتلئت بطونهم وحبسوا بأكواب الشاى المظبوطه التى أتتهم بعدما أنتهوا من تناول الطعام،
وعمال الكهرباء ، والشيخ عبدالله ،والعمدة وابراهيم ، وكذلك الاطفال الصغار وتناوب كل منهم  بغسل الايدى تحت السنبور الوحيد المركب على بستله من الصاج،الموضوع بجانب طرقة المطبخ،وقبل أن تنتهى منها المياه فى كل مره ،يأتى خفير الدوار ليزودها بالماء من خلال أناء كبير يتم أمتلاءه من برميل كبير بجانبه.
ثم أنتهوا عمال الكهرباء من ذلك،تناولوا زجاجات الصاقع ،وحمدوا الله ,شاكرين العمده وأهل القريه على مافاعلوه معهم.
وقد قامت النساء بحمل الصوانى الفارغه أكواما أكوام ,يذهبن بها الى شاطئ الترعه لغسلها.
وزع ابراهيم باقى الصاقع على العمال والاطفال الحاضرين حتى ينتهى منها ليعود الفارغ الى عم أمين البقال ، وقد أخذوا وقتا قليلا يستريحون فيه حتى أستاناف العمل مرة أخرى.
عمت القريه الفرحه،وتحولت الى خلية عمل،صغيرا وكبيرا يعملون لمساعدة عمال الكهرباء، فالكهرباء هى روح القريه لانها ستنيرها بدلا من ظلامها الذى يشبه ظلام المقابر.
ثم جلس ابراهيم مع العمده وشيخ الجامع يتحدثون فى غرفة الضيافه،               
وقد بدأ ابراهيم الحديث قائلا :
- أننا أتفقنا على عمل الخير فى القرية حتى تعود المنفعه على كل فرد فيها.
قال الشيخ عبدالله وهو يريد التوضيح أكثر:
- مثل ماذا؟!
- مثل جمع التبرعات للفقراء والمحتاجين  مثلا .. وأعطائها لهم حتى تعينهم على قضاء حاجاتهم.. ويكون ذلك تحت أسم عمل جمعيه لأهل الخير..أو جمعيه كفاله الأيتام .. يدفع فيها أجر رمزى من القادر .
قال الشيخ عبدالله مبتسماً :
- هذا عمل جميل ..وفكره رائعه.
وأنا أولكم .. هذا جنيها منى .. ولكم كل أول شهر جنيه أخر مثله ..
وقال العمده:
- وان أيضا مثلكم تماما.. وهذا المبلغ بداية المشروع.
رحبوا بالفكره جيا وبدأوا فى تنفيذها بالفعل،على أن يكون الشيخ عبد الله هوالمسئول الاول فى هذا المشروع ،وأراد ابراهيم أن يفصح عماكان فى ذهنه من أفكار أخرى.
ثم غمغم ابراهيم قائلا :
- ولكن عندى فكره سترونها..
قال الشيخ عبد الله:
- ما هى ؟
- ستعرفون بعد قليل..
ونهض ابراهيم قاصدا الاروقه الفسيحه التى بدوار العمده، لينادى على الصبيه الصغار الجالسين فيها، وأتى بهم الى غرفه الضيافه، أوقفهم بين يدى العمده والشيخ عبدالله , فعلت  اندهشه وجوههم،  ولم يفهموا ما الذى يقصده ابراهيم من ذلك ..
فقال العمده مستفسرا:
- ما الذى يدور فى عقلك يا ابراهيم !!
قال ابراهيم :
- هذه الاطفال ستتعلم فى كتُاّب الشيخ عبدالله.
ضحك الشيخ عبدالل عاليا.
- لكن أنا ليس عندى كتُاّب .
- من اليوم سيكون عندك كتُّاب وساكون أول من يتعلم عندك ..وأيضا كل أطفال القريه  الصغار.
أبتسم الشيخ عبد الله ثم خر فى الضحكات قائلا
:
- وأنا موافق.
- أثنى العمدة على أفكار إبراهيم الصغير،وعجز عن شكره لانه لم يتوقع ماحدث منه،خصوصا بعد ما رأى الفرحه على وجوه الاطفال الذين سيلتحقون بكتاب الشيخ عبد الله باكرا.
وصاحت الصبيه فرحا بكتُّاب الشيخ عبدا لله الذين سيلتحقون به غدا.
 وتعاهدوا الاطفال جميعا على أن يواظبوا في الذهاب إلى الكتُّاب ليتعلموا الحروف الابجديه وقراءه القران الكريم .
ذهبوا الى ديارهم للتهيئ والتجهيز حتى يذهبوا باكرا الى دار الشيخ عبدالله , يحملن الاوراق التى يدرسون فيها , وكذلك الاقلام المصنوعه من الغاب ودوايا الحبر المعده للكتابه ، وكذلك الالواح المصنوعة من الصاج.
وقد جلس الشيخ عبدالله مستريحا على مضجعه..

- أن ما قلته أسعــــــدنى جدا يا ابراهيم .. فأنا عندى وقت فـــراغ كبير.. وكنت أود أن أشغـــل

نفســــى

بعمل مفيد..

 قال إبراهيم :

 - غدا سأدور على ديارهم لكى أجمع قدر كبير من أطفال القريه.
 
هزا  الشيخ راسه قائلا:

- وأنا سأنادى فى ميكروفون الجامع الى الناس عند صلاة العشاء لكى يرسلوا أولادهم باكــــرا

الى الكتُّاب .

وبينماهم يواصلون الحديث عن موضوع الكُّتاب وأطفال القريه ،إذ بعــــامل من عمال الكهرباء

يدخل عليهم ليطلب منه سرعه أحضارخفير الى المكان المجمع فيه الأعمده لحراستها لانهـــــم

قد انتهوا من تشوينها ,وأمنوا كل شئ لحين العوده مره أخرى وهم الأن سيتركون الموقـــــــع , 

حتى ياتوا الاسبوع القادم لتركيبها.

 فقام العمده من فوره يرفع سماعه التليفون لارسال أشاره فوريه للمركز يستاذن المامــور لكى

يبدى رأيه فى ذلك.

علا صوت العمده عند سماع صوت المأمور عبر الهاتف،وشـــرح له الوضع فى القــــريه، وأنه

يحتاج لبعض الحراسات لتأمين الموقع من السرقه.

 وظل يكلمه حتى ظهر العرق على وجهه كأنما أنصب عليه من حيــــث لا يدرى، فأخرج منديله

ليجفف عرقه.

وكان ابراهيم والشيخ عبدالله يتابعان الحديث لحظه بلحظه , حتى لاحظ ابراهيم من ذلك الحديث

أن المأمورلم يوافق على طلب العمده .

وضع العمده السماعه

وقدكس وجهه حزنا وأسفا على رفض المأمور لطلبه ،فغضب غضبا شديدا لانه حاول أن يشرح

للمأمور مدى أحتياج القريه لهذه الخفراء الجدد،حتى يأمن الموقع من سرقته،وكأن العمده قد

فقد اليوم أعز من عنده،لان المامور لم يلبى طلبه،فهذه أول مره تحدث فى تاريخ تعينه للعمديه.

خفف الشيخ عبدالله عنه عبئ تحمل المسؤليه بعد محاولاته التى باءت بالفشل.

- لابد وأن المأمور عنده حجته فى رفض تعين خفراء جدد الأن ياحضرة العمده.

وكان ابراهيم قد تفهم الامر ،فطلب من العمده مهله حتى الصباح لكى يذهب الى المأموربنفسه

ويشرح له الامر على أن يأتى بالموافقه بطريقته الخاصه.

- لا تغضب يا حضرة العمدة .. الله معي مادُمنا نسعى في طريق الخير ..

غدا بمشيئة الله تعالى سأتى لكم بموافقة حضرة المأمور.
                                                 

                                               *            *               *

                                ــ 4ــ

فى اليم التالى ،ركب ابراهيم  حمارة العمد التى أعطاها له لتعينه على السفر الى المركز،وكان

الوقت مبكرا،وكأنه يحمل هم القريه بأكملها،فلايتوانا عن تذكر خدمات القريه التى تعانى منها

ويعانى أهلها من نقصانها،ومشكلة الخفر فى القريه التى تعُد على أصابع اليد،رغم أن القريه فى

احتياج الى المزيد من الخفر،منعا من سطو اللصوص .

لأن الغفر  فى الدوار قليلون،فكل جهه من جهات القريه يلزم لها حراسه مشدده.

على دوار العمدة ,وعلى حدودها من كل جهة ,وعلى بيوت وحارات الناس الغلابه،وعلى المقابر  

فقد ظهرت هذه الايام ظاهرة لم تكن فى الحسبان .

ظاهرة اللصوص اللذين يسرقون لحود الاطفال , وبأخذون جماجمهم ثم يسحنونها ويصنعون

منها مادة مخدرة تشبة الهروين ,ويتعاوطونها كالمخدرات ..

لابد من حراسه كل شبر فى القريه،ومايفعل ذلك الا أفراد الشرطه،والخفر من الشرطه،والشرطه

فى خدمه الشعب.

ولابد من تعين خفراء جدد من الناس العاطلين الذين ليس لهم شغله ولا مشغله الا السهروالسمر

على القهاوى بدون منفعه.

على السيد المأمور أن يستوعب ذلك ويساعدنا.

ظل ابراهيم يفكر كيف يقنع المأمور، وهل سينجح وهو فى هذا السن الصغير.

- حضرة العمده ذات نفسه لم يفلح فى أقناعه ،فهل أستطيع أنا أن أفعل المعجزه.

لم ييأس ابراهيم فيما يفكر فيه،لانه يؤمن بأن الساعى على الخير لا يضام،وكان يتمنى ان تتغير

القريه تغيرا جزريا.

لابد أن تتغير أحوال القريه ، وهذا يتطلب تكاتف الايدى، الكبير قبل الصغير, والصغيريتعاون  مع

الكبير .

لابد  أيضا من تنشيط الحركة التجارية بها , حتى تعود المنفعة على الجميع ،وخصوصا لمن

ليس له شغله . والاقبال على زراعة المحاصيل الجيده، مثل القمح البلدى وغيره لأنه المصدر

الوحيد لطعامنا بدلآ من أستراد من الخارج من بلاد الغرب ..

نحن دوله مسلمه عربيه ، ومن الافضل أن نأكل من عمل أيدينا.

كلنا فى القريه  فردا فردا لابد وأن يكون له دورا هام وفعالافى تنمية القرية والإ سهام بقدر

مايستطيع أن يفعله .

العالم  يجتهد فى مهنته حتى يتقنها،والصانع والزارع والمدرس والحرفى،أى كانت صنعته، لان

اتقان العمل سيرفع من شأننا،دون تكاسل أوتهاون.

تضاربت الافكار فى عقله ,وإنخلطت بعضها البعض , كأنه رجلا  مشيب وهو مازال فى سن

صغير، ليس هذا ذنبه إنما خُلق بهذه الموهبة وهذه النباهه الملفته للنظر، والتى جعلته فى مكانه

عاليه يجالس كبارالقريه ويبدى لهم برايه فيأخذون به،دائما مشغول بأهل قريتة وبمشاكلها،رغم

أنه نشأ يتيم الاب والام، وفصاحة لسانه جعلت أفكاره تأخذ بجديه، ومن يحاوره فى موضوع ما

يشهد له بحسن تصرفه فى بعض الامور. 

شهد له كل من يتعامل معه  بحسن الخلق وبناهته فى تحليل الأمور، ذلك المثقف الذى لم يقرأ

كتاب، ولم يلتحق بمدرسه فكم من طبيب أو مهندس أو مدرس أو ....أو.... لا يهمه ففط الاجمع

المال.

يعمل المستحيل ويصرف ألاف الجنيهات لكى يحصل على الشهاده التى تمنحه اللقب المناسب ،

والمكانه العاليه التى تتدرجه لاعلى المناصب .

 لقبه الذى يبحث عنه وهو فى الجامعه ..

يغضب إذا ناداه أحد بإسمه دون ان يقدم لقبه مقدما ..

 يا دكتور فلان ..

 يا بشمهندس علان ..

يا ... يا...

 مسميات وظائف كثيرة ومتعدده، يحصل عليها الشخص بخاتم الحكومة ، يكى يكون متميزا على

أصحابه وجيرانه ، أو بعض من هم فى قلوبهم مشاحنات ليتباهى عليهم ويتعالــــــى ، وبعــــد ما

يحصل على الشهادة الجامعيه يذهب بها الى ركن من أركان الغرفة ,الجلوس أو الصالون ليعلقها

على الحائط فى برواز أنيق من القطيفة مطلى بماء الذهب .

 ثم ينتظر الخطاب الذى يأتيه" من القوى العاملة " حتى يصبح موظف حكومى يشارإليه بالبنان

مهما كان راتبه . أو أختلف عمله .

تلك هى مسيرة الشباب فى طلب العلم ,شهادة فقط يحصل عليها وتعلق دون خبرة فى مجـــــاله

الذى تعلم من أجله, الخبره التى تؤهله الى عمل جاد، لاينظرون الى العمل الخاص، العمل الحـــر

 كانت مسيرة ابراهيم الى المركز جعلته ينتبه لاشياء كثيره تدور فى ذهنه، وكأنه مهموم بالفعل

بهموم الشباب أيضا، الذين غفلوا عن حقيقه مؤكده تحيطهم دون أن يلمسوها، وكأنه يريـــد أن

يوجه الى كل شاب وشابه رساله شديدة اللهجه.

                                                   *      *       *
  

                                                         ــ5ــ

بعد ما أنتهت المصلين من أداء صلاة العشاء ,نهض العمدة وأخذ بيد الشيخ عبدالله أما المسجد

وذهب به الى جانب بعيدا عن المصلين الذين بـدأوا ييصلون ركعتا السنه،  وارتكنا الى جــــــدار

المسجد يتحدثان ،وبعد قليل فاض المسجد من المصلين ولم يبقى الا هما فقط.

وكان وجه العمده قد أعتلاه الخجل ، فقال للشيخ عبد الله وصــــوته يكــــاد أن يخرج من فــــمه

بالضالين.  

- تعالى يا شيخ عبدالله.. أريدك فى أمر هام .

أستجاب له الشيخ عبدالله وقد ركنا هو الاخر ظهره على الجدار مستفسرا منه عن هذا الامـــر .

- ما الامر يا حضرة العمدة ؟!.

ساد الصمت قليلا  وجه العمدة ،وبدأ يتمتم فى نفسه بعبارات لم تفهــم، ثم نبهه الشيخ عبــد الله

بالخوض فى الحديث.

- ما الامر المهم الذى تريدنى من اجله ياحضرة العمده.

 رد عليه العمده متأثرا بخجله

- نسينا شيئا مهما ..ولم أعرف كيف غفلنا عنه نحن جميعا.

أنزعج الشيخ عبد الله من كلام العمده،وكاد أن ينخلع قلبه من صدره.

قال الشيخ متعجبا :

ـ ماهو ؟!.

قال العمدة موضحا :

-  لقد نسينا أن نرسل الى أم فاتن نصيبها من الطعام الذى أعددناه لعمال الكهرباء ..

هز الشيخ رأسة جاضما غضبه :

- نعم وأنا أيضا لقد نسيت أم فاتن .. ولكن لا لوم علينا .. جلا مالا يسهو ياحضرة العمده..

أنشغلنا كثيرا فى مطالب العمال وأعمدة الكهرباء .

قال العمدة :

- كنت أود أن أذهب اليها بما فاض من طعــــام .. لكن من الان سأتــــرك لك هذه المهمه..لأ ننى

سأذهب  لى أبا ربيع لكى أصلح امراءته , لكى تعود الى دارها .

لأن أباربيع رجل غلبان ولم يسلم من بذاءة لسانها الجحود .

 وافق الشيخ عبدالله على أن يقوم بهذه المهمه ويذهب هو بنفسه الى أم فاتن يعطيها من الطعام

المتبقى من عمال الكهرباء.

- وأنا سأتولى هذا الموضوع .. أطمئن.

خرج الاثنان من الجامع ، وأتجه كل منهم الى حيث يذهب .

 العمدة الى دار أبا ربيع من ناحية الشمال للجامع ،والشيخ عبدالله قصد دوار العمدة لإحضـــار

بعض الاطعم منه  ليذهب بها الى أم فاتن .

ثم أحضرت  خديجة العاملة فى دوار العمدة سله كبيرة مصنوعة من عيدان الخوص، وملئتهــا

من أصناف الطعام المختلفة ،من أرز معمر وصدر دجاجة وشقتين من الرقاق ,ونصف فطيـــرة

من المشلتت المصنوعة بالزبدة البلدى.

حملتها خديجة وأمامها الشيخ عبدالله يسيران الى دار أم فاتن ، ثم أخذ منها السله عندما اقترب

من الدار .

طرق الباب،فقامت أم فاتن وهى تتحسس العصا لتفتحه ،فلما فتحته وجـــدت الشيخ عبدالله على

الباب، أذنت له بالدخول وهى غير متأكده منه.

نظر إليها الشيخ قائلا:

- كيف حالك  يا أم فاتن.

قالت وهى تبحث عن الصوت :

-  من!!

قال الشيخ:

- يالا بلاهتك ياأم فاتن .. ألم تعرفى صوتى .. أنا الشيخ عبدالله أمام الجامع..

فقالت بصوت ضعيف كأن الحشرجة أصابت حنجرتها :

- لا تؤاخذنى فالمرض قد داهمنى ولم اعد اقدر على القيام باى شيئ، فليس لى أحد يعيننى على

وحدتى ياشيخ عبدالله

قال الشيخ متعجبا:

 - وأين فاتن أبنتك؟

قالت وهى تجلس على مقعدها ببطئ :

- فاتن لم ترضى على عيشتى .. تريد الذهاب الى مصر .

كأنت المفاجأه قد تثلج قلب الشيخ عبدالله فبا كالمزعور :

- مصر!!

أنها مشكلة فظيعة ياأم فاتن لم تكن فى الحسبان .

 أنه وباء أصاب عقول الفتيات هذه الأيام .

 ملعونة فاتن إذا فكرت بهذه الطريقة .

لا ياأم فاتن لا تدعيها تذهب الى  مصر .

لابد ياأم فاتن أن تعرفى بما يجرى هذه الايام .. وان تبصرى قلبك بمجريات  الامور ..

تشوقت ام فاتن على معرفة ما يجرى للفتيات التى يحلمن بالذهاب الى مصر .. يريـــدون الثراء

السريع والشهرة .. حتى ولو أدى ذلك الى ترك أهلهم فى الريف..يترون ديارهم الامنه ويذهبون

الى مصر يا أم فاتن.. ليظل أهلهم يبكونعليهم ليلا ونهارا.. يبحثون عنهم فى كل مكانو فى أقسام

الشرطة والمستشفيات الحكومية وغيرها واذا ضاق بهم الحيل يضطرون بدفع  مبلغــا من المـال

ليحصولون على أعلان فى جريدة  أو أرسال صورتها الى التلفاز.

وتكون فضيحة بجلاجل لامحاله  يشمت فيهاالعدو والحبيب والعياذ بالله  .

ياأم فاتن لعنه وحلت على الفتيات  فى الريف .. نداهه ملعونه تجذبهم الى عالم آخر.. عالم مليئ 

بالرومانسية ورقصات وسهــر وعربده فى أفخم الكازينوهات الليليه المبهـــره.. وما زاد المبله

فنادق الثلاث نجوم والخمسة  نجوم وكمانال سبع نجوم أول مرة نسمع عنها.. .. ناس لا تعـرف

الرحمه ولا الانسانيه .. تمطر الصالة بالمال على جسد الراقصة وهى تهز نفسهـــا بالألافــات ..

وربما تكون بالملاين وبأى عمله مصرى .. دولار أوحتى بالاسترليني ..

عليك أن تعى ذلك جيدا ياأم فاتن وتمنعى أبنتك من الذهاب الى مصر بأى وسيله حتى لايكـــــون

مصيرها الضياع.

لم يكف الشيخ عبدالله عن وعظه لام فاتن التى دارت بإذنيها ناحيته لتسمع مايقوله وهو يشرح

لها بدقه مايدور فى الفنادق والبارات،وصالات الديسكو,ونهايتهم التى ينظرونها عاجلا أو أجلا ،

وهى نهاية معروفة بلا شك .

- معروفة ياأم فاتن .

النار ليس غيرها .

 ثم نهض من مقعده هاتفا بهستريا:

- أنهم فى نار جهنم ياأم فاتن وبئس المصير .

أنهم فى نار جهنم ياأم فاتن وبئس المصير .

وظل يردد هذه العبارة حتى غاب عن مسامعها،فنهضت وتحسست سلة الطعام.

                                                                                                     

                                                         ــ6ــ

جاء الليل وحلا الظلام على القرية , والجميعفيها صغارا وكبارا يحلمون بالكهرباء , حتى تنار

القرية الصغيرة وتحصل على قدر ضئيل من الخدمات التى تنقصها , لأن الناس يمشون فى

مضايق الحارات والازقة بنور القمر فقط ليلا، يتحسسون الحفر والمطبات تجنبا للوقوع فيها.

واذا أختفى القمر بعد ظهوره فى منتصف كل شهر، صارت القرية مظلمه دامسه  كالقبور،

والقمر لا يظهر طوال أيام الشهر، ولكن يسطع فى يوم الثالث عشر وارابع عشر والخامس

عشرفقط،وباقى الايام الاخرى يكون هلالا أو لا يظهر أبدا، وككان القريه لا تفرح بسطوع القمر

الا فى هذه الايام الثلاث.

أهل القرية  مدفونون فى الظلمة وهم أحياء يرزقون، مثل الاموات فى القبور،وهو ماسماه

الشيخ عبد الله أمام الجامع بالظلمة الرابعة ، ألا سمعت قول الله عزوجل :

(يخلقكم الله فى ظلمات ثلاث )..

صدق الله لعظيم.

وهذه الظلمه الرابعه من صنع أيدينا .. نحن صنعناها لكن ظلمه سوء .

هكذا قال الشيخ عبدالله أمام المسجد ، الذى يعرف مخزاها، فهو على درايه كبيره بتفسير القرآن

الكريم، لكى يعظ الناس بما هم فيه فى خطبة الجمعه فيعملون به.

علينا بالانتظار لفك عقدة التركيب , ذلك الروتين الملعون الذى وظيقته تعطيل كل شئ.

يجب رفع الامر الى وزير الكهرباء.

لكن سيادته مشغول ومشغولياته كثيره وكثيره لاتنتهى، ..وليس لديه وقت لنا، وهل سيتكرم

ويتعطف وينظر لقريتنا ، من المؤكد سيحولها لوكيل الوزاره للبت فى أمرها ، واذا بت وكيل

الوزاره فيها ، حتماسيتكلف بها مدير الوزاره ، ومدير الوزاره سيكلف بها مهندسين

المكتب الميكانيكى ، وتأخذ طريق طويل ، وبعدها تدرج فى الادراج لحين البحث والمعاينه .

وحلينى على بال مايصدروا فيها رأى أو قرار.

  لابد وأننا جميعا لا نستعجل ونتحلى بصبر أيوب على  مايأتينا الفرج.

                                       *       *      *

أنتهى العمده من صُلح زوجة أبا ربيع  الخباثة .

زهقان وغضبان العمده من أفعالها مع وزجها، وظل يقلب كف على كف عجبا منها، يمطرها

بوابل من الشتائم واللوم.

ويتمتم بكلامات حتى يتخلص من غضبه :

- ماذا فعلت يا حضرت العمده على أخر الزمن بعد عشرة خمسه وعشرين سنه زواج !!

- تريد أن تذهب الى السينما فى البندر.

- وهذا سبب الزعله.

- وياليتها طلبت ذلك فقط، أنما تريد أن تحتفل بعيد ميلادها ياحضرة العمده.

- ماذا سيأتى عيد ميلادها يا أباربيع ؟

- عيد ميلادها يوم عيد زواجنا.

- وسنقضى السنه كلها أعياد.

ضحك العمده والواقفين بجانبه ، وقهقهوا عاليا، وقال على سبيل السخريه:

- أحضر لها شمع وطبخة خوبيزه وادعينا جميعا ياأباربيع.

كان أقرباء أباربيع يحضرون هذه المناقشه ، فأخذوا حديث العمده من نوع السخريه حتى ضحوا

جميعا ومعهم العمده، وعلت ضحكاتهم حتى كادوا أن يطرحون أرضا.


 ثم عاد العمده مستردا كلامه:

- ماالذى أدخل فى عقلها كل هذا ونحن لانملك الا راديو قديم مهكع يعمل بالحجاره بالعافيه.

- هل حصلت على شهادة وانت لاتعرف ياأباربيع وعرفت كل هذه الاعياد.

لم يجد أباربيع مايقوله ردا على قول العمده،وكاد وجهه يتغير أحمرارا وخجلا.

فى تل الحظه وصل الشيخ عبدالله بعدما قضى مهمته عند أم فاتن،  وقد سمع أطراف الحديث،

فاتأثر الشيخ الجليل لانه يحمل على قلبه القرآن، وعليه أن يفتى به فى تلك الامور لى يأخذوا به

ويحل عليهم البركه ، ويطردوا الشيطان هادم اللذات ومفرق الجماعات.

 - الحق ليس عليها ياحضرة العمده.. الحق على أباربيع الذى ترك لها الحبل على الغارب..ولم

يذبح لها القطه فى أول يوم من زواجه.

أو قطع لسانها عندما قالت ذلك..لان لسانها سيكون فى النار.. خالد مخلد والعياذ بالله.

أنتهوا من العبث والجد فى حكاية أباربيع وزوجته

وقد عرف أباربيع مدى تهاونه معها، وأستوعب الوعظ من الشيخ عبدالله، وعلى من سيفعله مع

زوجته لتاديبها على أن ترجع الى عقلها مرة أخرى.

وقد ترك العمده ومن معه يواصلون الحديث ، وقلبه منشغلا يغلى من زوجته التى وضعته فى

هذا الموقف.

 ثم أنتقل الشيخ عبدالله الى حكايه ابراهيم ومشواره للمركز، وما فعله فى أحضار الموافقه من

المأمور على تعين خفر جدد على شونة الاعمده.

- تعرفوا أن ابراهيم الصغير قد أنتهى من مشواره فى المركز وجاء بإمضاء السيد المأمور

بسرعة تعين خفراء على شونة الاعمده.

وقد حصل أيضا على قرار من سيادته لتعين خفر جدد من العاطلين فى القريه.

تهلل وجه العمده قائلا:

- أحسنت يا ابراهيم .. أحسنت ..

ولكن سرعان ماتبدل وجه العمده غضبا، ثم أنفجر فى الضحكات ، لكنها ضحكات  خبيثة كاذبة ،

متظاهرا أمام الشيخ عبدالله والحاضرين ببراعة ابراهيم فيما فعله مع المأمور من أجل القرية ،

فقد امتلاء قلبة حزنا وآسى .

المأمور بالأمس قد رفض طلبة عندما كان يحدثه فى تليفون الدوار، واليوم آتى ابراهيم الصغير

بذلك التصريح، ولم يكتف بذلك ،بل توسط عنده بتعين بعض العاطلين خفرا جدد .

ماأسوء هذا الحظ .

هيبتى ضاعت اليوم أمام الناس .

وقد علات مكانة  ابراهيم من هذ اللحظة حبا وتقديرا فى قلوب أهل البلد، ومن يدرى ربما قد نشئ

صداقه مع المأمور، المركز بأكملة .

أنه لم يحصل على شهادة ، فهو أمى لا يقرأ ولا يكتب، ويحدث كل هذا منه .. فما بالك لو كان

قد حصل على شهادة علمية .. مثل مثلا الابتدائية .

اليوم يتهافت علية الكبير والصغير فى القريه , من كان له مطلب ومن له مظلمه وسرعان

مايسرع  بها الى المركز ليخلصها من المأمور ذات نفسه.

عجيبة هذه الدنيا ..

ظل العمده يحلل شخصية ابراهيم فى نفسه، ونسى أنه يقف مع الشيخ عبدالله وجماعة من رجال

القرية ،تدور ويحور فى راسة  حكايات بشأن هذا الصبى ، وما فعله مع المأمور بعد أن عجز هو

على فعله .

  كانت تأتى اليه من بعيد العجوز أم فاتن تتوكأ على عكاظها الخشبى الذى يلازمهاأينما تذهب،

دليلا لها فى محنتها، تتحسس من خلاله العقبات التى تعترضها، إن لم تأتى بصبية صغيرة ممن

يلعبون أمام دارها ليون عونا لها فى مشوارها.

 لمحها الشيخ عبد الله وهى تأتى من بعيد , فكلف رجلا ممن يقفون معه ليساعدها على أجتياز

الطريق فأسرع اليها الرجل وأخذ بيدها , وصلت أليهم، ووجهها يكسوه الغضب.

 قال الشيخ عبدالله مشفقا عليها :

- الى أين تذهبين ياأم فاتن ؟!

قالت أم فاتن وكأنما الحشرجة أصابت حنجرتها :

- لا تتركوا فاتن تذهب الى مصر .. أتوسل اليكم .

 سمع الشيخ عبدالله كلامها وظل يتمتم بكلامات لم يفهمها أحد من الواقفين حوله، والعمدة كذلك

يقف يسمع كلامها وكأنة لم يسمع شيئا ممن تقول العجوز، الا هفوات تمر بمخيلاته كالاشباح،

لآن فكره مشغولا بابراهيم الصغير .

لا يفيق الا على صرخات أبن بديعة الشقى .

- إلحقونى  .. إلحقونى ..

رددها أبن بديعه عدة مرات بصوته الجهورى،

 فرنة الصرخات فى أذن العمدة ،وأنتبه اليه محدقا فى أبن بديعه ليستطلع الامر، ما أنتبه

الاخرين له ومعهم الشيخ عبد الله.

- ماذا حدث ياأبن بديعة ؟

كادت الانفاس تخرج من صدر أبن بديعه بصعوبه :

- إنجدوا جاموسة أبا ربيع ..  أنجدوها من الهلاك .. أنجدها من الضياع .

 توسعت عين العمدة لما سمع من أبن بديعة عن أمر جاموسة أبا ربيع , لكنة تراجع عن زهولة

لانة يعرف جيدا من هو أبن بديعة .

- كيف حدث ذلك ونحن نتر أباربيع منذ دقائق.

كان أبن بديعة ولد شقى  يبلغ الثامنه من عمرة، مهرولا فى ملابسة .. جلبابه المنخرط دائما فى

الطين ، يمشى حافيا دون أن يرتدى حذاءأ ، وكان العمدة يعطية حذاء فى كل مناسبة ، لكن دون

جدوى يقطعة ويطيح به فى الترعة ، ليس كباقى صبيان القرية ، الذين يلتفتون لدروسهم ، أو

يساعدون أهلهم فى الحقل والبيت ، أكانت الدنيا هى سبب شقاه ، أو أباه وأمه الذين تركوه وهو

فى الصغر وتوفوا.

معروف أبن بديعه فى القريه بأنه ولد عديم الفائده، لم يكن كأقرانه الصغار الذين يذهبون الى

المدرسه للتعلم.

علا أبن بديعة من صيحاتة حتى أكد للعمدة بالفعل أن جاموسة أباربيع قد وقعت فى الترعة،

لم يتمهل العمدة فى سيرة نحو الساقية ليرى أن كان صحيح هذا الخبر،أم مقلب  من هذا الولد

الشقى الذى لا يتهاون معه العمده فى ضربه اذا كان مقلبا من مقالبه .

وكان الشيخ عبدالله هو الآخر قد أخذ بزراع أم فاتن ليعنيها على عكسات الطريق المليئة

بالاحجار والحفريات متجهان الى دارها ، علية بصلح فاتن حتى ترجع عن فكرتها للسفر الى

مصر، وعلى العمدة أن يلحق بجاموسة أباربيع، ليشارك فى أنقاذها .

وبينما كان العمدة  يسير ناحية الساقية، اذ يقابله رجل من أهل القريه ،يصطحب حمارتة ،أسرع

اليه صاحب الحمارة، ودعاه الى ركوب حمارتة الهالكة التى أن كادت تصل الى الساقيه ، فتجرها

الناس الى البركة فاقدة النفس والحركة .

 ركب العمدة الحمارة  وأخذ بلجامها ، ومن خلفه كان  يسير صاحبها كشيخ الغفر عندما يهم من

وراءه بالاسراع ، اذا دعاه مأمور المركز فى شئ هام.

تلفت العمدة يمينا ويسارا ولم يجد أحدا متوجها الى الساقية ، فالكل يعمل فى أرضة وبجانبة

زوجتة , تسكب لهم الشاى , وأخرى تعد المكان للغذاء، هكذا ييسر الحال بين الفلاحين بعضهم

البعض بإطمئنان .

- ولو حدث مثل ما قال أبن بديعة مابقي أحد فى أرضه.

 ياله من غبي ..

 أيسمح  لولد كهذا أن يضحك على العمدة ..

لو طلع الامر كاذبا , سألقنه درسا حتى الموت ..

ساورته الشكوك فى كذب أبن بديعه، لكنه فضل أن يرى بنفسه، ولم يبطئ عن السير ، أو

ملاحظة الفلاحين فى أرضهم، وكأن شيئا لم يكن

كان العمدة دائما ما يتلفت فى جميع الاتجاهات ليجد مامن أحد يجرى ناحية الساقية، فلم يجد   

أحداحتى يعلم أن جاموسة أباربيع بالفعل قد وقعت فى الساقية ،وأن الامر هذا كاذبا او صادقا .

- أين هى ؟

اين جاموسة ابا ربيع ؟

مدبصره على بعُد قليل منه الى شجرة يكاد أباربيع  وزوجته يستظلان تحتها ، ودقق بنظره

جيدا،بعد أن كاد يضعف من السهر فى مشاكل الناس ، ولم يقم نظره من عليهما حتى وصل

اليهما .

 فوجدهم بالفعل أباربيع وزوجتة .

 أيقن على الفورأنها خدعة من الولد الشقى أبن بديعة .

 نزل من على حمارة الرجل الهالكة، والعرق يكاد ينصب من وجهة ، وأحمرت أوداجه،وكادت

تظهران كلون حبة الطماطم  الحمراء.

وأنتفخت عروقة  وجضم على أسنانة ينوى بداخله على معاقبة  الولد أبن بديعة ، وسيلقنه درسا

لن ينساه. 

وأبن بديعة يقف بعيدا ونظراته الداخسه تترقب العمدة ، فتظاهر بالابتسامه وقلبه يتمزق من

داخله، نظر اليه العمده بحسره ولكن طرءت على ذهنه فكره سينفذها فى الحال.

أظهر العمدة من سرواله جنيها من الورق , ليراوض به أبن بديعه، فإذا بالولد يثير لعابه, لانه لا

يرى شكل الجنيه من قبل .

كان أكثر ما يمسك فى يدة قرشا، وبه يطير من الفرح .

 لكن هذا جنيه كله، تمنى أن يأخذه ويذهب  به الى عم أمين البقال  لاحضار حلوى من كل نوع .

وظل العمده يثيره شيئا فشيئا، وكأن أبن بديعه نسى ماحدث فى لحظه واحده.

قال العمدة وهو يمد يده متظاهرا بالابتسامه :

ـ خذ  ياأبن بديعه .. خذ هذا الجنيه.. وأذهب به الى عم أمين وأحضر ما تريده من حلوى .. خذ

أنت عملت فيّ معروف أحضرتنى الى هنا لكى أتناول الغذاء مع أباربيع .. خذ.  

أطمئن أبن بديعة الى كلام العمدة ، وحاول الاقتراب منة شيئا فشيئا .

والعمدة يطمئنة بالامان ، وضحكات خبيثة لم تترك شدق العمده، لكنها مليئة بالمرارة،

 وأبن بديعه لا يعرف أنها وسيله للامساك به ، وحرمانه من الجنيه .

أقترب منه وعلى بعُد ضئيل جدا مد العمده يده يلقفه من ذراعية بسرعه خاطفه، لم يتمكن أبن

بديعه أن يلوز بالفرار.

صاح العمدة فى شيخ الغفر الذى أتى من خلفه ،لآحضار حبل مفتول متين وعصا غليظه.

أحضرهم شيخ الغفر  بسرعة ، وكأنما كان غائظا من أبن بديعة يريد  معاقبته مثل العمده تماما،

وصنع العمدة بالحبل والعصا "فلكة " كالتى يستعملها شيوخ الكتاتيب مع الصبيه الذين

يتهاونون فى حفظ الدرس .

وأدخل قدميه فيها، وأستعان بأباربيع الذى ساعدهم على معاقبة الولد أبن بديعه الذى ظل يصرخ

عاليا .

والعمدة يضربه بالعصا على قدميه بلا هواده.

علت صرخات أبن بديعة  مرددا :

- حرمت يا حضرت العمدة .. حرمت يا حضرت العمدة .

 لم أفعل ذلك ياحضرة العمدة       

 كان يتوسل اليه والعمدة يزداد فى لصعه بالعصا لكى يشفى غليله , يطلب منه أن يكف عن تلك

المقالب ،لأنه لم يترك كبيرا أو صغيرا، رجلا أو إمراءة إلا وصنع لهم خديعه  أوقعهم  فيها .

 الكل يريد تخليص حقة منه الأن .

 أعتقد العمدة ومن معه أن بعد هذا الضرب سيقوم أبن بديعه وألا يعود لهذا الخداع مرة ثانية . 

وتوقعوا الجميع ذلك .

وبعد أن أنتهى العمدة من ضربة ، قام شيخ الخفر بفك الفلكه من قدميه, شامتا فيه ،لكن سرعان

مانهض أبن بديعه مسرعا، وكأن شيئا لم يكن ، يسير على قدمية مثل الدبور .

- ليس الضرب وحدة يعلم أبن بديعة ياحضرة العمده.. فلم يؤثر فيه شئ .. لقد صار جسده سميكا

وعقله مثل الحجر التى يعجز كسرها بالمعول .. ممن حُكم علي بالاشغال الشاقة .. من ارباب

السجون ..

- أبن بديعه سيظل على حاله مهما فعلنا معه المستحيل.
                                    
                                              *           *              *

 

ــ 7 ــ

أستندت أم فاتن براحة يدها على الشيخ عبدالله ، لكى تتجنب الوقوع فى الحفر والمطبات التى

تملئ الطريق ،حتى وصلت الى دارها، وعندما دخلت الى حجرة فاتن ، فوجدتها تعد أمتعتها،

وقد جمعتها فى بؤجة من القماش , لكى تذهب بها الى البندر فى مصر،فى ترغب فى  استكمال 

تعليمها هناك .

وإن السفر يعد مشقة لها ، لأنها لم تحصل على المال الذى يعينها على السفر كل يوم من القرية

الى البندر، ومن البندر الى القرية ، ذهابا وإيابا ، وأنها لا تستطيع الانفاق على المواصلات، فان

من الضرورى السكن هناك بجانب مدرستها.

 دخل عليها الشيخ عبدالله وجلس بجوارها، وهى مازالت ترتب فى ملابسها التى تحتاج اليها

هناك، رمقته وهو ينظر اليها بنظرة لوم وعتاب ،  فنهارت فاتن تبى غارقه فى دموعها ،وارتمت

فى أحضانة  وكأنما أحست بحنان الابوه التى حرمت منها منذ مهدها ، لم يدع البكاء بأن تقول

أى شيئ ،فربت على تفيها برفق ،ثم  قالت بصوت يملئه الحزن :

- يعز علىّ أن أترك أمى وهى فى هذه الحالة ..

قال الشيخ وهو يعظيها بكلامة المؤثر دائما :

- لا تسافرى يا فاتن .. أمك تحتاج منك كل الرعاية  وهى فى محنتها هذه.

 مسحت فاتن بيدها الدموع التى سالت على خديها ..  وقالت :

- أريد أن التحق بالمدرسة وتكميل  تعليمى حتى لا يعرنى الناس بجهلى ..

سكت الشيخ عبدالله بعد كلامها , وتنهد  لانه أحس بما ترغب فيه فاتن، وقد تر الامر لله يفعل

فيه مايشاء، كما أنه أيقن أن كلام فاتن حق ..

 نظر الها بنظرة حزن ،وخرج من غرفتها يردد:

- يفعل الله مايشاء..

ترها فى بكائها وذهب يجلس بجوار أم فاتن فى وسط الدار، يف يبدأ الحديث معها..غمغم قائلا:

- ياأم فاتن أترى أبنتك تبحث عن ذاتها.. تطلب العلم ..وطلب العلم حتى ولو فى الصين.

وتذكر حديث ابراهيم عن الخدمات التى تحتاجها القرية . 

لو كان عندنا مدرسة .. لما كان هذا الحال.. البنات تريد تكميل تعليمهن ونحن لا نريد منهم

الابتعاد عنا .

ماأسوء هذه الظروف ..

ترك الشيخ عبدالله فاتن وأقتنع بكلامها دون أن يجبرها على الابقاء مع أمها فى الدار، لكى لا

تذهب الى مصر، ووعدها  بتولى رعاية أمها حتى تعود .

 وذهبت فاتن الى البندر فى أول الدراسة لتنتظم فيها،  وتحصل  على شهادة تليق بها، وتركت  

أمها فى هواجس وتخيلات الزمن الغاضب عليها ،الذى أمنحها فقدان عينيها ،لا ترى شئ سوى

أسوداد مظلم لا يطالعه نهار .

 سمعت أم فاتن نصائح الشيخ عبدالله فى  مسألةالبحث عن الذات , والتعليم وطلبة ولو فى

الصين أبعد بلاد الدنيا، كما قال صلى الله علية وسلم:

إطلبوا العلم ولو فى الصين .. صدق رسول الله صلى الله علية وسلم .

- لماذا الصين يا شيخ عبدالله بعينها ؟

- لأن الصين أبعد الحدود .. أبعد بلاد الدنيا ..

وعلى طالب العلم أن يسعى اليه .. وهذا يفيد عدم اليأس ياأم فاتن .

 لم تفهم أم فاتن كلامة ، ولكنها أظهرت له أبتسامة شاحبة تخرج من بين شفتيها وكأنها  مرارة

الدنيا تجمعت فى قلبها ..


 ثم أسترد الشيخ حديثة قائلا :

- والعلم فى البندر لم يكن ببعيد .. أنه فركة كعب .. حضرة العمدة يذهب اليه بحمارته كل أسبوع

عندما يريده  السيد المأمور .. ويأتى ومعه منديلا  به قطع العجوة والعـــــيش الافرنجى وطعمية

ساخنه وغيرها.. ماألذها وأطعمها.. تأكلى صوابعك وراها يا أم فاتن ..

 ـ وما ألذعيش البندر .. لاتقلقى ياأم فاتن .

هناك ترى العجب كله .. هناك كل الخدمات والمرافق ..

الذى يعيش هناك أمة داعيه له ياأم فاتن ..

سترى الترماى والسيارات التى تسير بالجاز .. والكهرباء ..ومن يدرى سترى جهاز التليفزيون

العجيب.. أفرحى ياأم فاتن ..أفرحى  فاتن ستتفتح عقلها وتصير مثل إبراهيم  .. إدعى لهـــــا ياأم

فاتن بأن الله يوفقها ..

 قالت بصوت يخطلته حزن عميق :

 - كأن لم يكن لى أبنه.. إستعوضتها عند الله ..

وقد غمغمت الأم العجوز وهزت رأسها، كأنها رضيت عن قدرها المحتوم ، وأمسكــــــت بالعصا

لتنهــــض من مكانها ببطئ  شـــديد ، وكأن الحزن زد  من مرضهـــا ، وصار الغضـــب يكســـوا

وجهها ، فتغيرت ملامحها وتجعدت جبهتها حزنا ومأساة على فراق فاتن .

                                           *          *            *



                                             ــ 8ــ

أستيقظ شيخ الخفر من نومة على رنين التليفون العالى, فقد كان واضعا رأسة على السماعة

وغفلة النوم من مشقة السهر اليومى فى حراسة القريه ، وكان حاضنا بندقيته بين ذراعيه

للاستعداد لأى شيئ مفاجئ فى أى لحظه، كما أمره العمدة، فزعه الرنين ، فصاح منفلجا وأيقن

أنه ترنك من خارج المركز، ومن غشاوة عيناه أمسك السماعه بالمقلوب ، ثم عدلها على

وضعها الاصلى .

 - ألو .. يا مركز ..

على الفور أدرك شيخ الخفر أنه ليس من المركز ، وأن المتكلم ليس من الذين يعرفهم ،وعندما

رد  عليه الهاتف وكلمه.. قال له :

- مكالمة من الكويت..

تعجب شيخ الغفر ومص شفتيه ينتظر المكالمه..

- الكويت !!

 وما الذى تطلبه الكويت من شيخ الخفر ..

لابد أن هناك سوء تفاهم فى هذه المسأله .. أو أن دوار حضرة العمدة صار معروفا .. لذلك ذاع

صيته دوليا .

أبسط يا حضرة العمدة ..تليفونك صار تليفون دولى .. ووصل صيته الى أبعد الحدود.

كان شيخ الخفر قد صن قليلا وسماعة التليفون على أذنة , حتى تأتية المكالمة ، واذا به يهب

فى الهاتف لما سمع صوت قابيل أبن أباربيع يتحدث.

- ألو .. قابيل ..

- نعم .. هذه هى القرية بعينها .

- الجميع هنا بخير .. والحمد لله رب العالمين ..أهل البلد جميعا يسلمون عليك..

و حضرة العمده وأباربيع .. وأم قابيل .. وكل أهل القرية صغيرا وكبيرا بخير .

ثم قال فى نفسة وقد أنتهزها  فرصة محادثته مع قابيل لكى يكلفه بهديه  قيمه من الكويت ، فعاد

الى مكالمتة مع قابيل قائلا :

- والله وتعمل فيا معروف .. وتحضر لى قطعة قماش صوف من بتاع الكويت معك وأنت ..

أنقطعت المكالمة ،فوضع شيخ الخفر السماعة وهو يأس من حظه.

كان يريد أغراضا من قابيل، له ولأولاده وزوجتة أيضا حتى يفرحوا، ولو سيدفع له الثمن عندما

يرجع ، فإن هناك المستورد ذو الصناعة الجيدة ،والخامة المتينة ، لكن لم يفلح فى تبليغه بذلك.

وظل بعد هذه المكالمة يحدث نفسة عن أمر قابيل وسر هذه المكالمة التى آتت على غير عادة ،

فلم يفهم منة شيئا، أو حتى يعرف سببا لهذه المكالمة.

- ماذا يريد قابيل من هذة المكالمة .. حتما يريد الاطمئنان على أمه وأبوه ..

أنهم كالعادة فى ناقر ونقير ..

ربما يبلغهم عن عودتة ..

أادرك شيخ الغفر بنباهته أن هذه المكالمة  لما أستنتجة منها ، فخرج مسرعا الى دار أباربيع

ولما وصل الى الدار ، وقف أمام الباب يصفق بكلتا كفيه  مناديا عليهم:

- يا أباربيع .. ياأباربيع..

يا أم قابيل .. يا أم قابيل..

خرج أباربيع من داره على صوت شيخ الخفر ,وهو يمسح عيناه بكم جلبابة الطويل ليزيل أثار

النعاس من عليها ،فكان  ذلك وقت الظهيره ،وهو مايسميه وقت القيلوله، وأباربيع كان يعتاد أن

يقيل فى هذا الوقت قليلا.

- من ..؟

- شيخ الخفر !!

قال شيخ الغفر وهو يلمح أثار النعاس على عينيه :

 - نعم ياأباربيع .. أنا شيخ الخفر .. أصحى..

 قوم ..قوم ياأباربيع .. الهنا جالك .. والسعد قبالك.. ستكون أسعد الناس اليوم ياأباربيع.

تعجب أباربيع من كلمات شيخ الخفر التى تنزل على مسامعه كالرابيج، وهو لا يفهم معناها ، وقد

راى فيها كلمات تشبه الالغز التى لا توضح , وقد وقف شيخ الخفر من أمامه ينظر اليه ،لأن بعد

أيام قليله ستفتح لة طاقة القدر، وكأنه يحسده عما سيلاقيه أباربيع من أمله عندما يعود اليه

ولده قابيل محملا بما تشتهيه الانفس من ملابس وأمتعة وأجهزه وخلافه.

 أزدادت الدهشه فى وجه أباربيع أكثر من أفعال شيخ الخفر التى يراها عليه لأول مرة ،باحثا فى

رأسه عن تفسير لما يراه.

وظل يحدث نفسه ..

ماذا يقصد شيخ الخفر؟

لأن شيخ الخفر أتى من دوار العمدة الى دارة حتى يستيقظة من أحلاها نومه  حتى يقول له ..

 الهناجلك.. والسعد قبالك ..

 يبدو أن عقل شيخ الخفر قد أصابته الفرة ..

الفرة التى تنخر فى عقول هذا الجيل مثل البريمة فتصيبهم بهلوثه .

 شعر أباربيع بالنعاس، فأراد أن يدخل ليستكمل نومه لأن شيخ الخفر لم يفصح عماجاء من أجله

, وأنه أتى اليه لكى يتسلى به ،فأغمض عينيه وتثاءب دلالة على النوم الذى داهمه مرة أخرى ،

 ثم أفاق على أسم ولده قابيل , بعد ما تنازل شيخ الخفر ونطق به ، فدبت فى أباربيع الحيوية

وتخلص من أثار النعاس ، مستفسراعما سمعه .. قائلا فى لهفه :

- يبد وا إننى قد سمعت أسم ولدى قابيل .

قال شيخ الخفر مؤكدا :

- نعم .. قابيل ولدك سيحضر إليكم بعد أيام ..كلمنى فى تليفون حضرة العمدة ..

رنت كلامات شيخ الخفر فى أذن أباربيع وهو ينتفض فرحا وأبتهاجا ،ودخل على زوجتة يبلغها

عن الخبر السعيد دون أن ينصرف شخ الخفر.

 وشيخ الغفر وقف يمص فى شفتية وهو يرى فرحة أباربيع العارمه.

وظل عقله يحدثه ..

ياهناك ياأباربيع .. فى النعيم والفخفخة التى تهبط عليك من السماء بعد أيام..

 ستكون أسعد من حضرة العمدة نفسه .. لا ليس حضرة العمدة وحده ..أنما حضرة المامور

هوأيضا .. من يدرى بأن قابيل سياتى بمبلغ يتعدى المئة ألف جنية .. أنه فى الكويت منذ تسعة

أعوام كامله .

 يا فرحتك ياأباربيع..

 تبطئ شيخ الغفر الخطى وهو عائد الى دوار العمدة , تمرعلى ذهنه هواجس وتخيلات مقارنا

بينه وبين أباربيع بعد أن يصل أبنه من الخارج .

خمسة وعشرون سنة  فى الميرى.. ولم أملك من حطام الدنيا شئ ..المهيه يادوب على

الأد..اللعنة لمن يريد خلفة الاولاد أكثر من الازم ..

الأسم وظيفة فى الحكومة.. حتى سرت كخيال المآتة ..ونخرا تعب السنين وسهر الليالى فى

جسمى وعظمى.

 طلبات الأولاد لا تنتهى ..  ومرتب الحكومه لايسمن ولا يغنى من جوع ..العمل الحر أفضل مئة

مرة من العمل الميرى.. لو كان فى مهنتنا هذه أجازة بدون مرتب لبدرت بأخذها سنة أوسنتان .

لا.لا.. بل عشرة سنوات.. نعم عشرة سنوات لأتحرر من قيود الوظيفه التى تحكمنى الى أبـــــــــد

الدهر.. على الأقل أرتاح من مطالب الأولاد المستمره .. ووجه أمهم الكئيب والممل فى الصبـــاح

والمساء.

 لو طلبت مهما طلبت لا يهمها شئ .. المهم طلباتها تستجاب على الفور.

دخل شيخ الخفر بهو الدوار وهو مازال غارقا فى هواجسه تفكيره،وكأنه لم يرى أمامه الا خيالات

، لم يرى أمامه العمدة ،حتى  أصتدم به , ولم يفيق الا بضربه عصا من العمدة على جسدة فتوجعة

،وصوت العمدة الذى كاد أن يخرم أذنه :

- مالك يا شيح الخفر ؟

أفاق شيخ الخفر من سرحانه وهو يتلجلج:

- حضرت العمدة ..

قال العمدة :

- أنت نائم ياشيخ الخفر .. وتكلم روحك ..

قال شيخ الغفر مخفيا حالته :

- لا ياحضرة العمدة .. لكن فى الحقيقة نحن مازلنا نائمين من أول ما إتعينا فى المنصب  .

وقف العمدة ممدهشا ثم قال فى لهجة عتاب :

- نائمين .. ماذا تقصد ياشيخ الخفر؟

 ولماذا تقول هذا .. ونحن العين الساهره لأمن البلد ..ألا تعرف أننا نسهر الليالى بعيون

مفنجله على خدمة الشعب..

لا أريد سماع هذا الكلام منك مرة أخرى .. لكى لايتسرب الى حضرة المأمور فيكون جزاءك

شطبك من الخدمة .

سمع شيخ الخفر ماقاله العمدة ، فتمنى فى نفسه أن يتحقق ويخرج من الخدمه لكى يكون حـــــرا،

 ويعمل عمل أبن أباربيع ،ربما يحن عليه بإحضار فيزا للسفر بها الى الكويت.

لوح شيخ الخفر بيده وهو يتمتم بكلامات غير مسموعه ومفهومه، وكأنه يقرف من شئ لا يطيـــق 

رؤيتة ، وكأن كلام العمدة  جاء على الوجيعه .

مما جعل العمدة يقلب كفا على كف على ما حدث لشيخ الخفر وأصابه من جنان.

وخرج شيخ الخفر الى خارج الدوار، وهو مازال لسانه لايكف عن الحديث مع نفسة .

- ماأسوأ هذا الحظ .. نحن نقبض على الآهالى بسبب وبدون سبب .. ونحبسهم فى الكركون اللعين

بسلاحليك الدوار.. ثم نقوم نترحيلهم الى المركز.. وكل يوم لا تتركنا المشاكل .. وكأن العمدة هـــو

مصلح مشاكل الناس التى ملت من رؤياه .. ولا يدرون أننا نتعب فى البحث والقبض على الجناه ..

ونتعرض نحن للخطر .. وهم نائمون مطمئنون فى ديارهم.

أه .. لقد كان عقلى ينفجر هذا اليوم .. من بداية ترنك أبن أباربيع .. ليته ما أتصل ..

ما كان حدث هذا لى .. سأترك المكان وأدور فى الكفر لا فى القرية ..لا..لا الكفر هى القرية .. لا

القرية هى الكفر .. بل هما الأثنان واحد..المهم  سأبحث أنا بنفسى عن الخارجين على القانون ..

حتى لاأكون مقصرا فى عملى.
                                            *         *        *


ــ9ــ
        
تركت فاتن امها العجوز فى كنف الشيخ عبدالله التقى وهى مطمئنة عليها ،حتى تذهــــب هى الى

عالمها الجديد، وسط أنُاس لم تعرفهم ، ولا تعرف تقاليدهم , لكنها طالبة العلم فى المدينه بكــــــل

أسرارها وضخامتها وفخامتها والتى حملت بها منذ صغرها .

أنها اليوم سيحقق هدفها المنشود ، كباقى فتيات المركز ، رأسها برأسهم ،جمعتت  أمتعتها التــــى

تعيش بها فى عيشتها الجديدة ،وجمعتها فى بؤجة صغيرة تحملها معها وهى مسافرة الى البنــــدر .

وأخذت  كل مايلزمها معها ، خرجت الى الطريق الترابى الذى بجوار المصرف الذى يشق البلــدة

نصفين ،وهذا الطريق مؤدى الى موقف الميكروباص ،فهو يبعد بعدة أمتارقليله  من دارها ، تنظر

الى القرية  النظره الاخيرة ، وكأنها تحملق فى شئ ما ،حتى رأت بنظراتها المتباعدة ابراهيم الذى

يقف  عند جزع الجميزة الضخمة الذى أعتاد الوقوف عندها , ينظر اليها أيضا وكأنة يعاتبهـــــــــا

ويلومها فيما تفعل ،لكنها لا تبالى به، وظلت فى سيرها الى المحطة ، تتطلع الى عالم خيالى كلــــه

سحروجمال يهفو فى خيالها ، لا تدرى ماذا يخبئ لها القدر فى جعبتة ..

- هناك سأبحث عن ذاتى .. وأكون شئا آخر ..

 أرتدى ماهو الجديد.. وأنعم يما ينعمون به أولاد الذوات ..

أملأ دولابى بملابس جديده بدلا من القديمه التى عفا عليها الزمان..والتى يمن علىّ بها أهل القريه

وكأنها صدقه..

نظرت فى يديها فتذكرت أنها تحمل بؤجة بها ملابس مهلهله وقديمة،  جارعليها الزمــــــن منذ ان

أشترطها من خمسة أعوام..

فقالت لنفسها :

- هذه البؤجة ليس لى بحاجة اليها.. أنها ملابس مهلهلة قديمة..أنها لاتنفع لمكانتى التى تنتظرنى بعد

ساعات قلائل.

ولوحت بها على طول ذراعها مياه المصرف، فطفت البؤجة على سطح الميــاة تجرفها الامــــواج

التى تتهادى بين سيقان البوص المنتشره بكثافه على شاطئيه.

 وصلت فاتن الى المحطة لستقتل السيارة الى المركز .

وجلست فى المقعد الامامى  بجانب السائق، تحلم وتتخيل وكأنها تستقل  سياره فارهة ،وبجانبهـــا

السائق الخاص , تأمره بالتوجه حيثما تشاء , ليقوم بتوصيلهـــا فى أى مكان ترغبة  كمـــــــا ترى

الملكات على صفحات المجلات ،وهى فى أبهى صورة وسط القصور الفاخمة والعمارات الفارهة

العالية الشاهقه , ناطحات السحاب . كما تسمع عنها فى بعض الروايات، أخذها التخيل ،وكأنهـــــا

تعيش الحلم بالفعل..

ولكنه حلم تحلم به أى فتاة فى عمرها، تريد الوصول الى ماتتمناه بقفزة واحدة بين عشية وضحاها.

لا تعمل حساب لهذه القفزه التى تسقطها  الى أسفل سافلين , فتلقى بها جثة هامدة ،أو يلحق بهـــــا

عارا يلازم حياتها للأبد.

تبطرت على حياة أهلها فى الريف ، لتحقق ما عجزعنة الأباء ، ولو كـان ذلك الوقوع فى براثــــن

الشيطان وأغواءه , أوتلقى بأحضانها بين أحضان رجل ثرى يملك الأموال الطائلة، ليحقق  حلمهـا

الزائف , لا يهمها سنه، كبيرا أو صغيرا ،ما يهمها فقط  الا ماله وثرواته ،وما يملك من الدنيا عــن

غيرة .

 هكذا ما تحلم فاتن وغيرها من الفتيات , لا ينظرون للفقير بطرفة عين، لانه لا يملك عصا سحريه

ليحقق له السعاده..

أفاقت فاتن من حلمها الوردى مضطربة عندما وقف الميكروباص فاجأة فى المحطه،يبنهها السائـق

بالوصول الى المركز .

كانت تتمنى أن يستمر حلمها مده أطول، ولا تستيقظ منه أبدا ، ولكن أنتقلـــــت منه الى الحقيقه ،

الحقيقه التى تبدأ من هذه اللحظه حتى تحقق ماحلمت به خطوه خطوه.

لمحها السائق وهى تبدوا غير مستقره الى أين تذهب ،وعرف بفراسته أنها أول مره تأتى الى هذا

المكان.. فسألها :

- الى أين تذهبين؟!

قالت  فاتن :

- جئت الى هنا لأ نتظر زميلتى هناء .. لكى تقودنى الى المنزل الذى أستأجرناة بجانب المدرسة ..

فدلها السائق على مكان ترى من خلاله النازحين من القرى، ومن الاماكن المختلفه ،وبذلك سترى

زميلتها بكل سهوله.

ثم تركها وأكمل سيرة , ووقفت فى المكان الذى حدده السائق لها ، حائره نظره نحو الطريق،

وأبواب السيارات التى تفتح كلما جاءت الى المحطه ،تتفحص وجوههم بتمحص وهى مازالت فى

حيره وقلق.

وقف فاتن تنتظر هناء ، تترقب الطريق  ،يمينا وشمالا ،كما لو كانت شيئا ضائعا منها، لاتعلمها

بملابس معينة  أو اشارة قد أتفقوا عليها أو تميزها.

وهى تردد فى نفسها :

- أين أنت ياهناء؟
                                      .         .     

ــ10ــ

جرف التيار المائى  فى المصرف بؤجة فاتن الى داخل القرية . فكان المصرف يمر وسط القريه ،

وكان شيخ الخفر يمر بين المزارع والحارات ليمسك من خرج عن القانون ,ويعاقية ، واذا به

يخرج على الجسر متجها الى دوار العمدة, وإذا به يلمح شيئا غريب يتحرك فوق سطح الماء ،

وقف يتأملها لحظه , وفى ذلك الحين كان عمران ، من أهل القرية يعمل فى أرضة القريبة منه ،

نادى علية شيخ الخفر ليرى هذا الشئ الغريب معه، أسرع اليه عمران  فى خفه ،واكد له بأن هذه

البؤجة صاحبتها فاتن بنت العجوز العمياء ،وقد رآها تحملها ذاهبة الى المركز منذ عدة ساعات.

أنتفض قلب شيخ الخفروظن أن فاتن قد غرقت فى المصرف، وعلى الفور أوقف عمران حارسا

على البؤجة ليقوم بابلاغ  العمدة على ما شاهده ، قبل أن يسبقه أحد غيره ويكتشفها فيكون له السبق

فى اكتشافها.

نفذ عمران طلبه وأسرع شيخ الخفر الى الدوار،يبلغ العمدة بصوته الأجش المفزع ،مناديا عليه قبل

أن يدخل الى الباب:

- يا حضرة العمدة..مصيبه وحلت فى البلد .

كان العمده يتأهب للخروج من الدوار، فقابل شيخ الخفر قبل أن يصعد الدرج،وقف العمدة صامتا

كأن شيئا اثلج جسده فافقده الحركة، وتلعثم لسانه، وجضم على شفتيه لايقدر

على النطق أيضا، وكأن كلام شيخ الخفرأصاعقه صعقه مميته.

وبعد لحظات قليله  هدأ روع العمدة،حاول الرد على شيخ الخفر ليستعلم عماجاء به مصتنعاالهدوء.

- ماذا جرى يا شيخ الخفر؟!

- مصيبة وحات على رؤسنا جميعا ياحضرة العمده..

نظر اليه العمده وكأنما غشاوه عتمت على عينيه ، فلم يرى شيخ الخفر الا خيالات ،ثم تحشرجت

الكلمات بين شفتيه ،فخرجت منه غير مكتمله.

حاول شيخ الخفر أن يهدأ من الحديث معه،بعدما شاهد العمدة فى حاله لم يرها عليها من قبل.

ثم قال العمده :

- ماذا تقول...أحم..

- فاتن بنت العجوز..غرقت فى المصرف.

هبط الخبر كسهام ترشق فى قلب العمده، وكاد وجهه يشحب. ولم يتملك  من زهوله..

- هذه أول حادثة من نوعها تحدث فى كفرنا..يالها من مصيبه مفجعه..

وظل يتمتم :

- غريق فى المصرف.

ومن!!

فاتن بنت العجوز العمياء.

مصيه وقد حلت على البلد بأكمله..لابد من  فعلها فاعل.. أبدا لم تغرق فاتن من نفسها..

الحكومة ستقلب البلد عليها وطيها..والسيد المأمور،والسيد وكيل النيابه ذات نفسه أيضا سيحضر

هنا على رأسهم..

أه يا عمدة..أظاهرقد قرب خروجك من العمودية.. وتأخدها العيلة المنافسة..

أقدم إستقالتى قبل ما يطلعونى..لاه .. هذا تخريف لن أقبل على هذه الفعله قبل ماأرى حل لهذه

للمصيبة.. ويف سنفعل فيها.

وأنتبه العمدة بعد لحظات من الغفل هو الهواجس التى طرأت على رأسه،وظل ينادى على شيخ

الخفر،وهو يتأهب للخروج نحو المصرف :

- يا شيخ الخفر.. أجمع عندى الخفر جميعا وأتبعنى عند جسر المصرف..

رد شيخ الخفر وقد أنتابه شيء من الرجفه :

- حاضر يا حضرة العمدة.

ثم قال متسرعا :

- أقوم بأبلاغ المركز!!

اشار له العمدة بعصاه بعدم أبلاغ المركز، إلا بعد ما أن يقوم بإستطلاع الامر بنفسه ، إما كان

صدقا أو كذبا.

- لا تفعل ذلك ياشيخ الخفر.

أرتدى العمدة عبائته الصوف ،ولف على رقبته عباءه أخرى ،وخرج الى الجسريتقدم الخفر،

وقد وصل الى مكان البؤجه الذى يحرصها عمران ،ونظر بعينيه اليها متمعا  فيها.

- من أدراكم أنها بؤجة فاتن!!

أكنتم منجمين ..  أوعرفتم الطالع..

وقد أمر عمران بسرعة نشلها من بين البوص.

- أنزل يا ولد يا عمران أحضرها.

فى تلك اللحظه كان آهالى القريه ينسلون الى المكان واحدأ تلو الآخر.

أرتعشت أوصال عمران وظل يتمتم بكلملت فى نفسه، لايسمعها العمده ،فكانت الأحراش تملئ

جنبات الجسر، ويبدوا مخيفا ، تشمر من جلبابه حتى ظهرت سيقانه الرفيعه ،فتنبه اليها الحاضرون

مما دفعهم الى الضح بصوت خفيف بين بعضهم البعض.

 تذكر البصمات التى تدينه إذا أقترب منها أولمسها ، فظل يردد بهستريا :

- البصمات.. البصمات.

وقد أصابته نوبه من الفزع ، كأنما لدغته عقربه أو حيه قاتله ،وكان يتردد فى النزول بين البوص .

ولكن صرخ العمده فيه قائلا :

- أنزل يا ولد ..أنا العمدة.. ممثل الحكومه هنا..

ولم يكن خوف عمران من حضور البؤجه ، بل من عدم معرفته للعوم ، فيكون مصيره مثل مصير

فاتن.

وقد جاء شيخ الخفرالى العمدة  وأخذ يهمس فى أذنه..

- لا يا حضرة العمدة.. فيه مركز و نيابه.

علينا كشف الجريمة فقط .. والحكومة عليها الباقى.

أمعن العمدة كلام شيخ الخفر فى رأسه ،وعرف أنه على حق ،وأن الحكومة هى التى تتولى

التحقيق فيها ، بصرف النظر إن كانت فاتن أو غيرها..

- الليل سيحل على المكان ، ولو تركنا الجريمة كما هى حتى الغد ، سأكون مخلوع من العموديه..

لا.. أبادر بالابلاغ عنها قبل أن يلومنى أحد.

ولم يهدأ العمدة من أمر تلك البؤجه الطافيه على سطح الماء ،ظنا بأنها بؤجة فاتن التى أعتقدوا أنها

غرقت بالفعل ، وقد نادى شيخ الغفر بحراستها حتى يذهب لعمل الاجراءات الازمه.

- أحرس الجريمة يا شيخ الخفر.. حراسه من حديد.. ولا تدع أحد من أهل البلد بأن يقترب منها.

أنصاع شيخ الخفر لاوامر العمدة، وقام بتوزيع الخفر على جنبات المصرف ،يحملون الاسلحة

المعمرة بالزخيرة،على أن  يأخذ كل منهم أجزاع الشجر ساتر حماية لهم تحسبا لأى هجوم عليهم .

- ربما تكون عصابه .. عصابه تدبر لدخول القرية..

أحتياطات أمنيه فى المنطقه.

جميع الخفر لابد من مراقبة كل شبر فى أرضها ،الحراسه من حديد.

- عيونهم مثل الصقر.. مفنجلة  لا تنام.

وقف كل خفير من اخفراء يترقب المنطقة المكلف بحراستها ، ييدوربرأسه  يمينا وشمالا،كأنما

تدور 380درجه ، يصدرون صيحات متواليه ،بأصوات جهوريه..

- هااا .. مين هناك؟

- الأمن مستتب..

كان العمدة راجعا الى دواره ليقوم بابلاغ  المركز وأبلاغ السيد المأمور عن الجريمة ،قبل أن

يفعلها أحد غيره ويتهم بالتقصير. 

قابله الشيخ عبد الله راكبا حماره هالكه ،وعن يمينه رجل وعن شماله رجل آخر، ومعه ابراهيم

الصغير ،يتجهان إلى المصرف بعد سماعهما للخبر.

وقد أصاب الشيخ عبد الله المرض ،فقد بلغ سن الستين من عمره، فظهر عليه أعراض الشيخوخه

منذ زمن ،فمنذ أن حمل  هموم ومتاعب القرية تدهورت صحته، دائما مايسعى لحل المنازعات بين

العائلات وبين الرجل وزوجته، فلا يبخل عن أحد بشئ  مهما كانت ،  يريد أيضا أن يمحى من

قلوب أهل القرية الحقد والكراهية ، وهذا ماينادى به فى جميع خطبه يوم الجمعه ،وأن يتجهوا

جميعا إلى المساجد لأنهم أبتعدوا عنها هذه الأيام لاشغالهم فى أراضيهم ومشاكلهم التى كثرت،

 وكأنهم  يدورون فى حلبه مغلقه.

وظل ينادى بزوال الدنيا التى لاتساوى عند الله جناح بعوضه.

والخير وحده هو الباقى ..

حشرجه أصابت حنجرة الشيخ بعد أن كان صوته يجلجل فى أروقة المسجد ،اليوم وقد اصبحت

كلماته تخرج من فمه ببطئ ..

لم يعلم العمدة بمرضه ، فقد تسمرت قدماه عندما رأى الشيخ فى هذه الحاله التى لاتسر.

- ما الذى أصابك يا شيخ عبدالله !!

قال الشيخ وهو يتعتع ، تخرج الكلمات من فمه بتعثر :

- أصابنى برد على الرئه ياحضرة العمده.

قال العمدة:

- وأين طبيب القرية ؟

ضحك الشيخ عبد الله ضحكه خفيفه حتى  كادت تألم صدره..

- تقصد الدكتور يا عمدة..

- دكتور أو طبيب .. كلاهما واحد .

قال الشيخ :

- لا.. الطبيب..الذى يطيب هو الله.. والله موجود فى كل زمان  ومكان ..

أما الدكتور فهو دكتورالوده بالقرية .. منذ أن تعين عندنا  والحكومة كلفته وهو لم يحضر ..

حتى المرض قد أصاب أهل القرية كبارا وصغارا.. والدكتور غائب ولم يحضر .. وطريق المركز

طويل وشاق  ويمثل لى عبئا كبيرا علىّ  وعلى أمثالى الذين تجاوزوا سن الشيخوخة..

لابد من أتخاذ قرار فى هذه القضية  هى الأخرى.

هز العمدة رأسه وقال فى أسف :

- على كل حال بعد الانتهاء من حكاية فاتن سيكون لنا تصريف آخر ..

المذنب لابد وأن يأخذ جزائه.. حتى ولو كان الطبيب نفسه ،لأننا لانحب الاهمال ..

عادوا إلى حكاية فاتن وسبب غرقها فى المصرف، ولما فرغ العمدة منها ، وجد الشيخ عبد الله

يبكى حتى سالت الدموع على خديه ، تعجب العمده لانه لم يراه فى تلك الحاله من قبل .

 فسأله فى اشفاق:

- ما تبكيك يا شيخ عبد الله ؟  

- أبكى على ما حظ فاتن العاثر.. لو كانت سمعت كلام أمها لانصلح حالها ..ألا تدرون أن حب الله

من حب الولدين .. للأسف لم يعرف هذا الا قله قليله.. وما حدث لفاتن ماهو ألا تخليص ذنب أمها .
                                       


                                       *            *               *


                              ـ 11ـ

أخذت فاتن زميلتها هناء بعد أنتظارفى محطه المركز ، وأتجهو الى الشقه المستأجره التى

سيعيشون فيها طول فترة الدراسه0 فى البندر، وكانت الشقه فى الطابق الثالث فى عماره عاليه

تبلغ اثنتا عشره دورا ، وعندما وصلوا اليها  كانوا يصعدون سلما فى مقدمة العماره ، ولم تكن

الشقه بالفساحه التى تحلم بها فاتن ، لكن كانت أوجه من الدار التى كانت تعيش فيها فى القريه 0

عرفت فاتن وزميلتها هناء ل منهم غرفتها التى تنام فيها ، ورتبت كل واحده سريرها الخشبى

الذى يعلوه مرتبه أسفنجبه ،وبعض محتواياته من ملائه ووساده وغطاء 0

وظلوا وقتا فى تنظيمها ، حتى أزالوا من عليها من الغبار العالق الذى يكسوها ، وكذلك الارضيات

والاخشاب المتناثره ، حتى قاموا باصلاحها ،وأعادة كل شئ فى موضعه0

فتحت فاتن أضلف الدولاب وجدته خاويا من الملابس، راوضها خيالها ، ورســـم فى مخيلاتهــــــا

أحلاما ، وتمنت لوكانت ترى أمام عينيها صوره لدولاب ضخم  مكتظ بأفخم المــلابس الفاخــــــره 

من كل نوع أشكالا وألوانا0

تمنت لوتجد ألوان زاهيه تلمع ، ومزركشه ، وغيرها لتختار منها ما تشاء  ، كأولاد الزوات ترتدى

كل فستان مره وبعدها تلقيه من النافذه ، ليتطاير به نسيم الهواء الى حيث نصيبه 0

- هكذا تكون الرفاهيه 00وهكذا تكون الحياة فى البندر بحق 00وهكذا أيضا يكون النعيم0

كانت الاحلام تأخذها الى عالم آخر، ترسم لها طريقا ورديا وكأنها تسير بين الذهب والفضه.
                                                
وجاءتها هناء لتفتح باب الغرفه ، ففزعت فاتن وخرجت من أحلامها ، لتجد نفسها فى الواقع المؤلم

التى ترهه، وكانت أحلامها تأخذها الى عالم آخر ، عالم تتمنى أن لا تستيقظ  منه الى الابد0

لاحظت هناء ماكانت تحلم به ..قالت بهدوء :

- تعالى يافاتن لتأكلى .. الطعام مُعد فى الصاله0

أغلقت الباب عليها وتركتها لهواجسها ، فكانت تعرف أنها فى غفله ،لأنها لاتنظر الى واقعها،

وكأنها تجد نفسها بين عشية وضحاها تملك القصر والسيارة والمال.

توجهت فاتن لتخرج الى الصاله ،تبتسم فى نفسها لأنها تستعد لوليمه كبيره كما تحلم ، وظلت

تقول لنفسها :

- يبدوا الطعام فراخا مشويه ، أو أوزه محمره ..أو .. أو ....

وقد جلست كل منهما على مقعده حول السفره المعده عليها الطعام فى الصاله ،وكشفت الغطاء

الذى عليها ، لتفاجئ  فاتن  بما يحتويه الطعام من جبن وزيتون مملح وقطعا من العيش .

نظرت اليه فاتن بحزن وقالت :

- جبن وزيتون مملح ..

قالت هناء  :

- هكذا يكون الطعام فى البندر يافاتن .

غضبت فاتن وقامت مسرعه الى غرفتها ، وأغلقت عليها الباب  بأحكام ،وأسرعت الى المرآه

الموضوعه بجانب الدولاب لتُعد المساحيق ،ولتتزين وتغير من ملامحها ، ومكثت  أمامها عدة

دقائق تزين من نفسها ، وكأنها عزمت على تحيق حلمها بطريقتها.

- لابد من تغير كل هذه الأشياء.

خرجت من غرفتها وهى  بملابس زاهيه قصيره ، وقد تركت شعرها ينساب على وجنتيها حتى

يهفهفه نسمات الهواء ، الذى يدخل الغرفه من النافذه المفتوحه ،وصارت شخصيه أخرى غير التى

جاءت بها من بلدها .

رسمت لنفسها طريقا آخر، لتصيد من خلاله فريستها بسهوله فى الاماكن العامه والنوادى

والكافيتريات .

- هناك سألقى رغباتى التى حلمت بها طول حياتى.

نظرت اليها هناء بدهشه ، لكنها لاتملك أى حيله على لإرجاعها على ما تقدم عليه ،حتى ولو

بالنصح فقط.

- الى أين يا فاتن؟

ردت فاتن عليها وهى شامخه، تشير بأصبعها الى أعلى ، كما لو كانت برنسيسه متوجه بالفعل.

- الى المجد .. الى علم آخر .. أحقق فيه ذاتى وأحلامى ..

نظرت اليها هناء بدهشه، والصمت يخيم على وجهها دون أن تنطق بكلمه واحده , ثم دخلت

غرفتها وقلبها يتمزق حسره عليها .

وكان الوقت يقترب فيه غروب الشمس .

نزلت فاتن الى الشارع , تسير فيه ولا تعرف أين هى ذاهبه ، تجوب ببصرها هنا وهناك تتلفت

الى المبانى الشاهقه والمناظر الخلابه التى تراها لاول مره ،وقد لفت نظارها لافته تدل على وجود

منتزه ، يشير اليه بسهم  فتتبعته ، حتى وصلت الى الباب ودخلته ، وظلت تحملق ببصرها يمين

وشمالا بين أرجائه، وتتفحص وجوه البشر الموجودون فيه، وكأنها تبحث عن شاب ثرى ليسطتيع

أن يحقق لها رغباتها ، وإذا بها تلمح شابا يجلس وحده على أروقه صغيره موضوعة وسط الزهور

النابعه ، فى مكان بعيدا عن رواد المنتزه ، يظهر عليه الغنى والثراء.

يشرب فى كوب عصير، أبتلعت ريقها ، وقالتلنفسها :

-هاهو الشاب الذى أبحث عنه.

أقربت منه بخطوات بطيئه تمشى بإستحياء ،وعلى بُعد منه بقليل أدعت بتعثر قدمها فى الارض ،

ووقعت على ساقها  مدعيه أنه يؤلمها حتى تشد إنتباهه اليها.
  
فقام الشاب اليها مسرعا، يحاول مساعدتها حتى أجلسها بجواره، يحاول علاج ساقها، فتظاهرت

بالألم ، نظر الشاب فى عينيها ، بلهفه عاطفيه، كأن عينيها سحرته ،وأشجم الشوق قلبه ،وهى كذلك  

قد ظهر بريق عينيها كأنها متعطشه لذاته .

وهذا توقعته  فاتن ، لتوقعه فى شباكها.

أبتسم الشاب وقال مداعبا :

- ليت  ساقى بدلا منك .0.

فابتسمت فاتن أبتسامه خبيثه ، لتشعل  فيه حنين الرغبه اليها حتى أبدى لها عن مفاتنها التى لم تكن

الا فى برنسيسه أو ملكة جمال متوجه، حينئذ أعتقدت فاتن أنها نفذت الخطه بحزافيرها.

وجلست  معه فتره يتحدثان حتى كاد الشاب أن يقع فى غرامها ، فعترف لها بأنه وحيد مثلها ، وأنه

لايريد تركها وحيده ، فعرض عليها العشاء معا فى المكان التى تريده 0

رقص قلبها فرحـا وطمئنينه ، ولــم تتردد فى الرد عليه ، وافقت فاتن على الفــور ، ثم أخذ يدهـــــا

متجهان الى كازينو على ضفاف النيل حيث سحر الطبيعه فى وقــت المساء ، وجلس معها ، كأنهما

عاشقان يعيشان حياة رومانسيه.

وكأنما  مارسمته يحدث بالضبط ، جلسوا معا فى الكازينو، ونادى الجرسون الذى آتاه على عجل،

وطلب منه عشاءا فاخرا يليق بهم ، وظل يتنوع من أشكال الطعام ، فلبى الجرسون طلبهم

وأحضرهم اليهم ، كانت كلما  ترى مايوضع أمامها من اطباق يثيرلعابها ، لأنها لم ترى هذه

الاصناف منذ أن ولدت فى قريتها البسيطه .قالت فى نفسها:

- منذ أن شبت على الدنيا لم أرى شيئ من ذلك .. فراخ  محمره.. كفته ..خضروات من كل نوع.

أشكال وأصناف لم أسمع عنها فى حياتى .

وكيف تسمع عنها وهى تعيش فى دار نصفها مهدم والنص الآخر قايل للسقوط0

لاتخرج من نطاق القريه منذ صغرها.

فرح قلب فاتن أبتهاجا وسرورا ، ولكن لاتظهر فرحتاه للشاب الذى لا تعرف أسمه حتى الأن،

وأطمئن قلب فاتن بعشاء الليله كأولاد الذوات كما تمنت.

بالنباهه وتفتيح المخ ، عرفت أن تجذب هذا الشاب ، وتجعله مطيع أمرها ، بكونها شابه مثله 

ملفوفه القوام صغيره، لكن جسمها فاير كما يقولون، وبسحنتها الفتانه الجذابه التى تستخدمها

كسلاح لمن تريده 0 وبضحكه صغيره ينكب ويبوح بما عنده ويغرد لها بأسراره .

وبضحكه أخرى تدمره اذا شاءت ، كالحيه التى تلون جسدها على كل لون .

سلاله حواء.

تلك المخلوقه من ضلع آدام ..أعوج .

وأن أعوج مافى الضلع .. أعلاه.

هذا الكلام لايعرفه إلا الشيخ عبد الله أمام المسجد وأمثاله الذين يعرفون أصول الدين .

صغيره بعقل شيطانى ،فكرت ودبرت وعرفت من أين طريق الذه، عرفت كيف تملئ معدتها دون

مشقه0

شعرت فاتن بالشبع بعدما ألتهمت المائده  دون هواده، حاولت القيام لتعود الى الشقه قبل أن يجن

عليها الليل بظلامه ،فتتعثر فى الرجوع الى المنطقه التى رأتها الا مره واحده منذ أن أتت الى

البندر.

وكانت نظرات الشاب تتفرس جسدها ، كأنها أثارت فى نفسه الشهوه  فيلتهمها، قال لها  هامسا:

- سأنتظرك غدا فى نفس المكان .

نظرت اليه  بإبتسامه ناعمه  ،وأبدت له موافقتها ،أطمئن قلب الشاب لأنه سيلاقى منها مايبحث عنه

لإشباع غريزته ورغبته الجامحه .

ثم نهض هو الأخرو قال :

- أاسمحى لى أن أوصلك الى المكان التى تسكنين فيه .

صمتت فاتن لحظه ثم وافقت على طلبه ،وتشابكا الايدى خارجين من الكازينو متجهين الى السيارة

، واذا بها تلمح سياره فاره سوداء اللون تقف بجوار السور ، جرت اليها بخطوات سريعه نحوها ،

تتلمس بيدها السياره وهى متلهفه عليها ، وقد بهرها شكلها الجذاب ، كأنما تعيش الآن حلمها التى

حلمت به ،وهاقد آن الآوان ليتحقق .

فتح الشباب لها باب السياره يامرها بالدخول مع قليلا من الانحناء بظهره تبجيلا لها ، ودخلت فاتن

السياره ثم أنجضعت علي مقاعدها الاسفنجيه المبطنه بالقطيفه الزاهيه ، وأخدها الأسترخاء حتي

أغمضت عيناها ، يهفهف عليها نسمات الهواء المنبعثه من جهازالتكيف الموجود بالسيارة.

وكأن رائحة عبير الورد تملئ السياره، فاشتنقت منه  صاور لها خيالها بأنها تعيش لحظات ألف

ليله وليله ،ونسيت الدنيا بأكملها ،كما أنها نسيت أيضا حضورها الي البندرللدراسه فقط .

تحلم وتتخيل ويراوضها هواجسها الكاذبه التى ستكون عواقبها وخيمه.

من هذه اللحظه سيتحقق كل شئ حلمت به.

وهذا أول الطريق.

سحب الشاب شريطا من تابلوه السيارة ، ووضعه في الكاست, فتبعث منه نغمات موسيقيه

عذبه، جذبت فاتن الى تعايشها الحلم الوردى الذى سيطرعلى تفكيرها منذ أن صعدت السيارة

تعيش في حالة نشوي تتصورالحاضرو كأنه أسطوره ،لاتريد أن تستيقظ منه أبدا.

فلما رآها الشاب وهي مغموره فى أحلامها ،لا تحس بمن حولها , تأخذها الأحلام الي أبعد حدود

الخيال,غير مسار السياره الي شقته التي يعيش فيها، في أحد ضواحي المدينه الفا خره المبهره.

                            

                                     *            *      
 

ـ12ـ

حزن ابراهيم وكادت عيناه تظرفان بالدموع على ماحدث لفاتن, سكت عن الكلام , وارتكن الي

جذع شجره، مما شد أنتباه العمده وأنشغل بأمره ،والشيخ عبد الله هو الآخرلأنه يراه لأول مــره في

هذه الحاله, فهو يعرفه جيدا منذ صغره ،لأن الشيخ عبدالله عامله معامـــله مثل ولده منـذ أن شبّ

علي الدنيا..

غلبه البكاء فظل يبكي  حتي أثــــار دهشتهم أكثروأكثر, فنزل الشيخ عبدالله من علــي حمارته،

وأقترب من ابراهيم هو والعمده ،يسألونه عن سر تغير حالته وبكائه المفاجئ.

وكان ابراهيم حزينا علي مـــا رآه في عين فاتن عنــدما كان يراقبهـا قبل سفرها, وظـل يلـــعن

الظروف التي جعلت حال الفتيات يضعن بهذا الشكل.

- أهكذا صار بها الحال؟

- أهكذا يكون مصير فتيات الريف ؟

 البنات تهرب وتريد العيش في البندر, فتركن الريف خاويا .

 ملعون من علم أبنته وترك لها الحبل علي الغارب.. البنات العاقلات التي من واجبهم خدمه أهلهم

فى القريه.. يعملون وينتجون من صنع أيديهم.

سمعه الشيخ عبد الله الذي شاركه الحديث، بينما ذهب العمده ليتابع حراسة الجريمه.

- ليس كل البنات يا ابراهيم.. فهناك بنات تختلف عن بعضهم البعض..من تعرف جيدا أصول

دينها.. ولوفكرت بعقلها قليلا لتجد هنا الأمن والآمان..لأنها تعيش في حماية أهلها وعشيرتها

بإطمئنان وسكينه.

تنهد ابراهيم وكأنما تخرج من قلبه آهات لا قبل لها ولابعدها.

- حقا هنا في الريف الأمن والآمان.. وليس البندر, الملوث بالنفايات وعوادم السيارات والمصانع

بأدخنتها الضاره.

- ليت البنات تعرفن ذلك.والشباب أيضا.. ويعرفون أن الخيركله في الريف ليس غيره.

واصل ابراهيم لومه للفتيات التي تحلمن بالسفر الي البندرللبحث عن الشهره الزائفه,وترك موطنها

الأصلي في الريف التى تربت فيه ، والذي فيه الخير كله، أمنيه مطمئنه بين أهلها وجيرانها

الطيبون الأوفياء, وأن تتخلص من فكرة السفر الذي يكون طريقه ضال ملئ بالاشواك والمآسى.

وفى أثناء حديثه مع لشيخ عبد الله ،آتى العمده وقد أنتابه نوع من الدهشه لما يسمعه من ابراهيم

الصغير،ووقفوا يتأملانه وكأنه رجل كبير دارسا أحوال الناس ومهتما بمشاكلهم.

 فناداه العمده لكي يخرج من حالته البائسه.

- ياابراهيم.. فوق ياابراهيم ..هّم البلد هّم ما يتلم..

كادت عبارة العمده توقظه من غفلته, وقد قام مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم ،وقرأ المعوذتين فى

سره.

أخذ العمده جانبا حتي تأثر بكلام ابراهيم الذي كاد أن يبكيه هوالآخر،لكنه سرعان ما أتجه الى شيخ

الخفرالذى ناداه ليحضر اليه.

أتاه مسرعا ووقف بين يديه.

- أمرك ياحضرة العمده.

- أنظر ياشيخ الخفر لماحدث لابراهيم!!

لم يكن شيخ الخفر يعلم بأن العمده والشيخ عبدالله كانوا في حديث مع ابراهيم ،لأنه كان واقفا ينظر

في كل الاتجاهات مشغولا بحركة الناس الوافدين الى المكان والواقفين أيضا ، فلم يفهم مايريده

العمده ،حتى أنه وقف أمام يدى ابراهيم ينظراليه مره وللعمده مره أخري، كأنما يقارن بينهما.

قال له العمده بلهجة عتاب:

- ماذا بك ياشيخ الخفر..أتسمرت قدماك.. وعيناك التي تندب فيها رصاصه لماذا تنظر الينا هكذا؟

قال شيخ الخفر:

للأسف ياحضرة العمده.. لو كان في الكفر واحدا آخرمثل ابراهيم لانصلح حاله.

هب العمده فيه بصوت عالي ملوحا بعصاه التي فى يده.

- ماذا تقول .. كفر ..أأنت مخبول.

هذه قريه.

قال شيخ الخفربهدوء بعدما لمح الغضب على وجه العمده:

- أنه كفرلأنه معدوم الخدمات.. كأى كفر منسى..

القريه فيها جميع الخدمات.. كالاناره والمياه النظيفه وماشابه ذلك.. أما عندنا..أعمدة الاناره مثلا..

منذ شهرولم يتم فيها شئا ،وكأن الحكومه أرادت أن ترضينا بتشوينها عندنا فقط.

عنده حق ابراهيم فيما يقوله .. معزوراذا طارعقله من التفكير ويكون عزقان في التفكيربهذا الشكل

فى هذا السن وهو مهموم... لم يفعلها الكبار..

مشاكل قريتنا يا حضرة العمده عويصه..لا تحصي ولا تُعد.. وهى سبب تدهر البلد .. حتى حلت

عليه اللعنه.

أندهش العمده من أمر شيخ الخفرالذى أنقلب حاله مثل ابراهيم حتى ظن أنه مرض يصيب العقول

هذه الايام . وظهرالغضب علي وجه العمده فقال:

- لا..لابد من أنشاء مستشفى للمجاذيب هنا فى القريه..

سأتصل با المركز..

عقول البلد حدث بها جنان.. حتي شيخ الخفر أصابه الجنان هو الآخر.

توجه العمده الي دواره في عجاله يسير بخطوات سريعه كأنه ينوي إبلاغ المركز بالفعل،

وترك الشيخ عبد الله وحده يتصرف في أمر ابراهيم الذي عزم علي عدم مكالمة أي شخص،كاظما

غيظه فى نفسه ،وربت علي كتفه قائلا:

- ما الذي اصابك يا ابراهيم؟!

قال ابراهيم بحزن عميق:

- شغلتني حكاية فاتن.

قال الشيخ:

لكن حكاية فاتن تحدث كل يوم .. في أي مكان ..ووهذالايغير من الكون شئا.

قال ابراهيم:

- كيف؟!

وذلك أضعف الإيمان.. وذلك أضعف الإيمان.

قال الشيخ  بدهشه:

- ماذا تقصد؟!

تقصد بأننا نقوم بتغير الكون.

قال ابراهيم:

- لا.. ولكن علينا بالدعاء الى الله  حتي ينصلح حال الناس وينصلح شأنهم..

والدعاء في السجود حتي يتقبل الله منا.

قام الشيخ عبد الله من أمام ابراهيم حائرا من حديثه الذى سمعه  يتمتم بكلمات لا تفهم.

قائلا لنفسه:

-  ماذا يقصد؟ أيتحدث بالالغاز!!

يقصد أن نقوم يحل مشاكل البلد والناس في لحظه من البصر..هذه المشاكل حلها يأخذ سنوات

وسنوات.. ومشكلة فاتن أكبرها ..

معصيه من أكبر الكبائر.. وعصيان الرب من عصيان الوالدين.. ولكن العقل الذي يتدبر..
 
لاشك أن كلام ابراهيم صحيحاً.. وما يفكر فيه لا ذرة شك فيه ..

 هّم حمله ابراهيم ورماه على عاتق الشيخ الذي أصيب بالمرض وصعب عليه التفكير في مثل هذه

الأمور الكثيرة ،أيموت الشيخ وهو مهموم بأمر نساء القرية هم الأخريات.

النساء اللاتي بعضهن يتبعن وساوس الشيطان.

النساء التي تخرج عن طوع أزواجهن .

إستغفر الله العظيم .. إستغفر الله العظيم.

إبتعد الشيخ عبد الله عن ابراهيم بخطوات قليلة، وابراهيم مازال في مكانه يحملق فى وجوه

الحاضرين ، يفكر فى أمر يشغله ،فأطبق عليه الصمتلفتره.

وقد أجمعت الأهالي الذين تطوعوا للبحث عن جثة فاتن الضائعة وسط هيش المصرف , يحملون

المصابيح الموضاءه, وقد كسى ظلام الليل المكان ، فجعله دامسا لايظهر فيه الاضوء المصابيح

وكائنها شمعة تضيئ في صحراء واسعة .

وبعد مجهود شاق من الآهالي في البحث عن الجثه ، حيث الصقيع الذي نزل علىأاجسادهم فجعلهم

يرتجفون منه من جهه ومن ملابسهم المبتله من جهه أخرى.

قال أحدهم :

- لم نجد جثة فاتن..

وقال ثانى:

كأنها أبرة في كومة قش ..ليس لها أثر .

وقال آخر:

- لوغرقة فاتن بالفعل لطفت جثتها على سطح الماء .

أقتراحات وأقاويل من بعض الآهالى  لأنهم لم يعثروا على جثة  فاتن ،فأردوا الرجوع الى ديارهم

,ليستريحوا بعض الوقت للعوده الى أشغالهم فى الصباح الباكر.

ذهب الشيخ عبد الله الى ابراهيم ، يقول له :

- تكلم ياابراهيم ...يبدو أنك تعرف شيئا لم نعرفه نحن.

تكلم !!

قام ابراهيم من مكانه وعينه تدورعلى أوجه الآهالي التي يراها على ضوء المصابيح والمشاعل

المشتعلة ، ثم قال :

- فاتن لم تغرق .

وقفت الآهالى وعيونهم جاحظه في وجه ابراهيم  ،وقد بدت الدهشه عليهم جميعا، فينظرون في

وجوه بعضهم بإستغراب مرددين بصوت واحد :

- فاتن لم تغرق !!

كيف ؟

غمغم ابراهيم وأسترد قائلا :

- لكنها  غرقت بالفعل .

ظن البعض منهم أن ابراهيم قد أصابه الجنون ، حتى كاد الشيخ عبد الله هوالآخرقد ظن أنه بدأ في

الضحك على عقولهم ، وقبل أن ينتابه الدهشة سأل ابراهيم عن تفسيره لهذه الكلمة التي قالها وكأنها

لغزيحيرهم ، وما القصد منها .

- ماذا تقصد ياابراهيم ؟ فسرماتقوله !!

قال وقد أوشك على البكاء :

- فاتن لم تغرق في المصرف  كما تعتقدون .. لكنها غرقت في بحرآخر، نعم  بحرأسمه الشهره ..

رمت الماضي الذي عاشته في قريتنا البئسه خلف ظهرها.. وأستجابت للنداهة التي وسوست في

اذنيها عن المجد كله وماتلاقيه فى البندر.

الشهره والحياه الجميله ..لوحت فاتن ببؤجتها وسط المصرف .. للتخلص من ماضيها وماضي

العجوز العمياء .

ألا تفهمون يابلد !!

وقف الحاضرون منبهرون بكلام ابراهيم عن تفسير حكاية غرق فاتن الوهميه ، وبين لهم أنها لم

تغرق بالفعل لكن البؤجه التي وجدوها على سطح الماء ماهي الاماضي فاتن التي عاشته في القريه

لاتريد أى شيء يذكرها به ،فتتذكر  الفقر والضنك التى عاشتهما.

كان الجميع يمص شفتيه ، لاأحد فكر مثلما فكرابراهيم الصغير، يحسدونه على نباهته وفطنته

،شاهدين له بالحكمه ،فكان كل واحد منهم يتمنى أن يكون ولده مثله .

- تلك هي عبقريتك يا ابراهيم .

- وتلك عقلك الجهنمي في محدثات الأمور.

- مثلك لاينبغي له الا أن يكون في منصب عالي .. ليت عقول

علت الدهشه وجوه  الحاضرين من نبوغه المبكر وفي هذا السن الصغير .

وعلم العمده هو الآخر بأمر ابراهيم وما قاله، وذاع صيته وشهرته بين الكبيروالصغيرمن أهل

القريه ، وصار حديثهم وأحاديث ألسنتهم المعتاده فى جلساتهم وتجمعاتهم.

حتى المأمور أيضا ، لقد نال شرف معرفة ذلك الأمر الذي فعلة ابراهيم ، ففرح وأبتهج ،ولم يعاقب

العمده على هذه الكذبه التي لم يقوم بالإبلاغ عنها فور وقوعها ،خصوصا بعد ما سمع عن نابغ

القريه الصغير." ابراهيم عبد الحق " .

وقد تأكد كلام ابراهيم لأهل القريه عندما عاد " رجب " العامل الذي يخرج كل يوم فى الصباح

الى عمله بالمركز، وأكد أنه رأى فاتن وهي تركب سيارة الميكروباص متجهه الى البندر، ولم يكن

معها شئ تحمله ،بذلك قد هدأت روع القريه ،وعادوا جميعا الى ديارهم يتغامزون ويتشدقون

بحكاياتها.   

                                                   *        *          *
                         

                              -13-

سيطرت الاحلام على عقل فاتن، وكأنما وجدت ماحلمت به في القريه , وكانهه أيضا بدأ يتحقق

على يد ذلك الشاب , الذى ينشلها من حالة البؤس التى عاشتها  مع أمها في دارها , وأنه أيضا

ينقلها الى عالم الرفاهية والجمال ،عالم المجد التي تمنيته منذ  صغرها كما  تسمع عنه .

ولا تعلم ما يخفى لها القدرالمحتوم من مآسي أليمه تتعقبها في كل خطوة تخطوها وأن ينبش لها

الزمن قبرها.

لم تعلم فاتن مايريده هذا الشاب الذي يبهرها بكلامه المعسول وتسبيلات عينيه الخادعه، وشعرة

الناعم المهفهف الذي يتطاير كلما عليه النسائم .

قد رسم لها الحياه ومتعتها ، ووضع قدميها على طريق الرفاهيه،أدخل فى عقلها بأنه يسطتيع

بأشارة منه ستحصل على ماتريد حتى تودع الفقر، وتبخس به في الارض، حاضر جديد يرتسم

أمامها بكل حلاوته ،حتى أطمئنت له واستسلمت له بك جوارحها وكيانها،لم تذكر شيئا من

الماضى،بل لا تتذكر زميلتها هناء التى تنتظرها فى شقة الطلبه،وكأنها تخرج لنزهه وتعود.

وصلت السيارة الى منزله الكائن فى أرقى أحياء القاهره،وهو حى المعادى ،ونزلت منها فاتن ثم

لمس الشاب يدها  صاعدين الى شقته ، وهى تبعث له نظرات ساحره داخسه، تملئها الجاذبيه

أثارت شهوته أكثر وأكثر،مص شفتيه يشتهى افتراسها فى تلك اللحظه.

مد أصابع يده الساحره لتلتقت أصابعها الناعمه ،فطاوعته وتشابكت معه الايدى ،صاعدين السلم

الى شقته، وكانت ساق فاتن تتخبط ببعضيها البعض ،ودون أن تشعر وجدت نفسها واقفه أمام ا

لباب التى أعتبرته باب المجد والشهره.

سحب الشاب  مجموعة مفاتيحة ، وأخرج منها مفتاح الشقة الذهبي،وأداره فى كالون الباب

بإنسيابيه ، ثم فتحه لها على مصرعيه ، ثم أمرها بالدخول ، فظهرت لها السجاده القطيفه المفترشه

فى الصاله، حتى خطفت عينها منبهره بها .

أنحنى لها قليلا ، فاردا  ذراعه يأمرها بالدخول بالطريقة الرومانسيه .

- أدخلي يابرنسيستي .

الى المجد والشهرة.

اليوم سيتحقق لك ما كنتي تتمنيه في حياتك .

دخلت فاتن متباطئة الخطوات , تنظر يمين ويسار فأبهرتها محتويات الشقة الفاخرة والتحف

النادره الموضوعة بعنايه  في كل ركن فيها ، والأثاث المطرز بالخرز الأزرق , والأنتيكات التي

تخطف العيون لحظة مشاهدتها ،والانوار التى تخفض وترتفع ، والتى بدت كالقصر، وأصوات

الموسيقى  الهادئه التى تنبعث عبر مكرفونات صغيره مركبه على الفاظات بعنايه.

كانت  فاتن منبهره مما  تشاهده، السحر فهى لا تراى  فهي  مثله قبل اليوم،  وقالت فى نفسها :

- خيال أم علم.

بحق مساكين أهل قريتنا.

الفقر والطين.

والبؤس والحرمان.

كان التذكر فى حياة القريه يؤلمها ، وظلت بعض الوقت تقارن بين حياتها في القرية وحياتها

الجديدة المقبله عليها ، فهي على حق عندما حلمت بأنها تريد أن تنتقل الى عالم آخر هو عالم

الحضر ،بدلا من حالة التقشف التى كانت تعانى منها.

في القريه يكاد الناس يكدون ويعملون طوال اليوم، ولا يجدون لتعبهم مقابل الا الشقى والتعب،

وفي الحضر عمل دون عناء ،لكنه بمقابل مغري يجعل الحياة أكثر سعاده، نسيت خيرات القريه

المتوفره لدى كل كل فرد إذا أعطى لارضه جهده وتفانيه ، فهو يجنى منها ذهبا.

لم تعلم شيئا عن الحضر ومآسيه ،كانت ترى السعاده هى السيارة والفيلا والرصيد فى البنك فقط.

وكأن فاتن فاتت الدنيا ، وغرقت في أحلام اليقظة بمفاتن الحياه التي تراها أمامها ،أقترب منها

الشاب وهو يلمس بأصابعه على خصلات شعره المسترسل على خديها ، فبدت لها كملمس البلسم

على البشره ، فأقت من غفلتها ثم جذبها اليه وهى ترقص رقصات أنسيابيه بين ذراعيه ،دخل بها

الى غرفة النوم ، فوجدت نفسها أمام دولاب كبير مفتوح أدلفته ، مكتظا بالملابس  , فإذا به أشكالا

مختلفة من الملابس الحريمي الشيقة والثمينه التى تفتن النفس وتسحر العين .

أمرها بأن تختار ماترغب فيه .

- أختاري ما تشائين منه.

نظرت فاتن الى محتويات الدولاب ، فارتسمت على شفتيها أبتسامه عريضه ، لم تتملك سعادتها

،فقامت تقلب الملابس الكثيرة ,وكأنها لم تدع ماضيها جانبا ، فتذكرت دولابها الخاوى فى القريه

وأيضا الموجود في شقة الطلبه ،عندما فاتحته لأول مره وتنمت أن يكون مملوءا بجميع أنواع

الملابس.

وها قد تحقق حلم الأمس دون جهد ولا عناء.

لكن سرعان ماأفاقت من تسهمها ،وعاشت حلم الواقع ،كيف تفعل بهذه الملابس التى لم ترى مثلها

قبل اليوم ،أى فستان تختاره.

وظلت تقلب في الملابس لايعجبها شيئ منه، لان كل فستان أفضل من الآخر.

الوردى ..أوالأحمر.. أوالأخضر.. أوالأصفر .....أو....أو ...

كأنه كنز وأنفتح عن مصرعيه.

كان الشاب قد تركها تختار ماتشاء،وخرج الى البهو ليحضر من المشروبات الكحوليه من البار

الموجود فى ركن به ،أحضر زجاجه كحوليه وكأسين، وهي مازالت غارقة في إختيارالفستان الذى

يناسبها.

ليتك يافتن تعلمين مايحدث لك بعد قليل .

غرك متاع الدنيا وأذهب الثراء برأسك حتى تضيع هيبتك ، حلم مزعج ستفيق منه على كارثه

مداويه مؤلمه تذهب بهيبتك امام اهلك وعشيرتك وتندس رأسك في التراب.

ألا تعلمين أذا أجتمع رجل وأمرأه فثالثهما الشيطان،وأنت وذلك الشاب الذى لاتعرفينه وراء باب

مغلق.

طمثت عينها زهو الدنيا ،وغفلت عن مايحدث لها بعد قليل من الذئب البشرى الذى ينتظر

إستسلامها لينهش فيها بأنيابه القاطعه.

لقد سلكتى طريقا مفترشا بلاشواك،حلم مزعج وأنت بين أحضان الشيطان.

تحاول فاتن نسيان الفقر، وأن تتاقلم مع حاضرها ومستقبلها الباهرالذي ينتظرها على طريق

السعاده التي كانت تتمناها .

أرتدت الملابس الزاهيه من النوع الضيق المجسم على خصرتها، ووقفت أمام المرآه لتعدل من

هندامها التى ترى نفسها فيه وكأنها ملكة متوجه .

رأت نفسها بالفعل عروسه تزين لتزف على عريسها ،وتخيلت بأن حمام أبيض يحلق حولها ،كأنه

حمام السعادة والأفراح يغنى ويرقص.

تتهادى بخطواتها الهادئه على الارض المفروشه بالورود .

وظننت أن هناك مستقبل باهر ينتظرها ،أن الفرصه قد آتتها من حيث لا تدري ، ولابد من

أستغلالها ،تعيش في وهم ، حتى تخلت عن ذاكرتها فلا تتذكر الا هذه اللحظات التى تعيشها الأن.
مسكينة فاتن، ما الذي حدث لها .

هوس أم جنان .

بل هما الأثنان معا.

يجتمعان معا في مستشفى واحده .

هي مستشفى الأمراض العقليه .

دخل علىها الشاب وهي في أبهى صوره، لقد غيرتها الملابس من  فجعلتها إمرأه عصريه .

صحيح كما يقولون فى المثل البلدى .. (لبس البوصه تبقى عروسه).

رآها الشاب وهو يتجرع من كأس الخمر،فلعب الشيطان برأسه ووسوس له، فحرك نشوة الشوق

بداخله ، مد يده وسكب من الزجاجه في كأسها وسقاها من الخمر، وشربت فاتن دون درايه منها،

ثم شرب من مكان شفتيها ،تنظر اليه بطرف عينيها كأنها تداعبه ،وبعد لحظات دارت بها الدنيا ,

وراحت عن الوعي تماما .

خديعه رسمها وخططها وقام بتنفيذها بحنكه ،ذئب بشري لم يرحم ، لينال منها ملازاته الشيطانيه .

هل الزمن هو القاسي عليها، أو أطماعها هو السبب في ذلك ، فهي قد جاءت الى البندر لتتعلم

وتنظر للحياه بعين أخرى ، فهناك من هو معدوم الضمير والانسانيه ،وهناك أيضا من هو منتزع

من قلبه الايمان ، كل ذلك لاتعلم عنه شيئا ، وتعتقد أن كل متع الدنيا فى المجتمع الحضري فقط.

لا تعلم أن كل مكان فيه الطالح وفيه الصالح ، وهناك أمثله رأتهم بالفعل فى قريتها ، مثل الشيخ

عبد الله أمام الجامع وآخرون.

أطفئ الشاب الانوار وكادت الغرفه تبدوا أنوارها خافضه ،ونفذ غرضه الدنيئ ، وذهب بشرف

الفتاه البريئه التى لاتملك غيره .

وصارن ضحيه غرورها الجنونى ، كباقي الضحايا التي تنتشرعلى صفحات الصحف كل يوم ،
والذي لايعلم سرها أحد الا الله واحدة ،أهكذا كانت المرأة هي السبب في حدوث تلك الجرائم التى

نسمع عنها كثيرا.

نعم ..

لأنها ليس لها حاكم يحكمها , فهي تفغل كيفما تشاء ،إذا خرجت عن طوع أهلها وعشيرتها.

كانت الليله المشئومه على فاتن مظلمه , فقد تغير مجرى حياتها أمام نفسها  التى لاتكف عن سيل

الدموع ، فسودت الحياة الورديه التى كانت تعيشها فى لحظات من الغفله ،وتبدلت أبتساماتها

بالبكاء .

تلك  العاده التى تحدث لأى فتاه مستهترة ناكرة لعيشة أهلها ، ناسيه عادتها وتقاليدها ، تستجيب

لأهواءات الشيطان ، لتجد نفسها تنحدر فى بئر الأوهام .

                                                *        *   

-14-

كان ابن بديعه الشقي يجري مهرولا الى دار أباربيع ، وهو يصيح بصوت عالى ، ووجهه يتصبب

عرقا ، ولغبط الطين هندامه فجعلها باليه.

وكان يشاهده كل من يعمل في غيطه , فيقف ويترك فأسه ومقطفه يتأمل في أبن بديعه الذى أنتبهت

اليه العيون ، كل منهم يسأل عن صياحه .

- لماذا يصيح أبن بديعه هكذا ؟

- أبن بديعة شقي ..

- أبن بديعه لابد من ورائه مصيبه ..

وأبن بديعه مازال يزيد من صياحه حتى أقترب من دار أباربيع.

- ألحق يا أباربيع ..ولدك قد أتى من الخارج .

ولدك وصل من الكويت .

وبعد قليل ظهرت سياره من خلفه تحمل حقائب مختلفة الأحجام على شبكتها ،مترصيه على

بعضها البعض ومربوط من حولها حبل سميك من البلاستيك  حتى لاتسقط واحده منها.

وكلما شاهدها أحد من الكفر يقف ويثار لعابه ، فيحدثه عقله على النعمه التى انعمها الله على أبن

أباربيع ،وظلوا يضربون أخماس فى أسداس على مابداخل الحقائب.

- ترى ماذا أتى ولد أباربيع معه من الخارج!!

دورلارات من عملة بلاد الفرنج ..

أم أتى ببضائع مستورده ..

تلفزيون ملون .. فيديو .. كاسيت ..  أو ربما تكون سجاجيد من القطيفة.. أوربما ذهبا يقطعه ويبيعه

قطعه قطعه.. فيرى فيها ليلة القدر.. ويكون من أغنياء الكفر.

يرزق الله ما يشاء بغير حساب.

ياحظك يا أباربيع، هل لسان زوجتك سيكف عن بذاءة الألفاظ وينصلح حالها بعد أن تنعم بالأمتعه

التى أتى بها قابيل من الخارج ، ياليت ذلك .

أباربيع نائم في المساحه الواسعه التي تتقدم الدار ، وقد ألفحت الشمس رأسه فجعلته لا يقدر على

الحركه ، خمول أصاب جسده ، وعرقه يتصبب فوق وجهه  من لسعة الشمس في وقت القيلوله.

ساعة الظهريه الساخنه  تسرقه الى البقاء فيها نائما ، يتلذذ بحموتها يتقلب ناحية اليمين مرة وناحية

اليسار مرة أخرى، أتى اليه أبن بديعه الشقي مهرولا بصياحه الهمجي.

- الحق يا أبا ربيع..

لا يبالي أبا ربيع بما سمعه من أبن بديعه ، وأيقن على الفور أنه يريد صنع مقلب فيه ، ولا يريد أن

يتطلع اليه ، يسد أذنه بطرف ثيابه حتى طمثها لكي لايسمع ولا يريد أن يقلق راحته بذلك الصوت

البذيئ.

أبن بديعه لا يرحمه فظل يصيح على رأسه لكي يتخلص من كسله ويقوم ليتهيئ لمقابلة قابيل ولده،

فقد أتى الى القريه بعد غياب طويل ، بعد كفاح شاق في بلاد الغربه.

اليوم قد أتى ليسعد حظك يا أبا ربيع .

خرجت زوجته على صوت أبن بديعه، وعلى يدها آثار العجين ، تخلصت منه في عجاله عندما

سمعت أسم ولدها قابيل ،

وقد صار بصرها يحملق على الطريق الزراعي ربما ترى صدق ماقاله أبن بديعه , ولا يكون

ملعوب من ألاعيبه .

كانت السيارة الأجرة تقترب شيئا فشيئا ،وكأنما تخرج من منزل في الطريق الزراعي لتظهر من
أعلاها , والحقائب المرصوصه على ظهرها , ثم تظهر السيارة بأكملها أمام أعين زوجة أبا ربيع

وهي تتحقق منها لأن بصرها كان ضعيفا، فهي تقترب من سن الخمسين عاما، والفقر الذي يحيطها

له دورا في ضعف بصرها .

فوجئت بالسيارة تقف أمام الدار فاجأة ، ينزل منها قابيل مرتديا بنطلونا من الجنز الضيق وبلوفر

من الصوف الخالص ، فصار شخصا غير الذي تعرفه ، لم تصدق أمه ماتراه عيناها،فنطلقت من

فمها الزراغيد التي رنت في أذن أبا ربيع النائم ، وقد هب واقفا على قدميه كأنما ألدغته عقربه  

فبات كما لو كان مصعوقا.

أرتمت في أحضانه تغمرة بالقبلات الحاره حتى بعد ما أنتهت من الترحيب به تغير حال قابيل من 

آثار العجين الذي لصق بملابسه من أيد أمه حتى جعلته كالبلياتشو، أرتاح قلب أبا ربيع بملاقات

ولده قابيل الغائب عنه منذ سنين ، فقد رأه بعد عناء شديد وفقدان الأمل فيه ، نظر أبا ربيع الى أبن

بديعه

- أنك يا أبن بديعه صادق هذه المره.. فلك عندي هديه لكن بعد أن يفتح قابيل حقائبه .

وأرتمى أبا ربيع هو الأخر بين أحضان أبنه يقبله بحراره..

- اليوم سيكون نهاية الفقر وبداية العز..اليوم سيكون لي شأن بين أعيان القريه.. راسي برأس

العمده وشيخ البلد وكذلك شيخ الجامع الشيخ عبد الله جنبا الى جنب.

رحبو به على أكمل وجه ، وقد أنزلوا الحقائب من السياره التى رجعت الى حيث أتت، فقد أنتهت

من مهمتها ،ودخلوا الثلاثه الدار وأغلقوا عليهم الباب، وأبن بديعه جالس أمام عتبة الباب ينتظر

الهديه التى وعد بها أباربيع.

جلس يخمن عن نوع الهديه ، وظن أنها هديه قيمه.

 قطعة قماش أم جهاز كهربائى ،ولكن من المستحيل أن يكون جاز كهربائى لأن الكفر مازال عديم
الاناره.

تدري ماهي ؟

ما نوعها ؟

محليه ام مستورده !!

أى كانت لابد أن ثمنها غالى .

بعد قليل سأعرف ولا أشغل بالي بما لا أعلمه ..

ظل بن بديعة جالسا فىمكانه مده طويله ، وقد ثار لعابه مشتاقا ليهرف ما نوع  الهديه ، ومرت

ساعة وهو يترقب فتح الباب ، غالبه النعاس وكأنه ظن أنه فقد وعد أبا ربيع له ، وقبل أن يغمره  

النعاس تنبه وتاهب للقيام ، وعلى وجهه خيبة أمل فى وعد أباربيع الكاذب.

لحقه أبا ربيع وخرج عليه وهو يحمل في يده جلبابا مزركش وحذاءا أسود من الجلد ، وقد أعطاه

اياهم ليغير ملابسه الباليه التى ألتصقت على جسده ، وقدماه الحافيتان التى جرحتهما الاشواك .

فرح أبن بديعه وأبتهج .

من اليوم سيكون كأطفال القريه .

جلباب جديد وحذاء جديد .

أخذهم وسلك الطريق الضيق المؤدي الى داره راجعا اليها وهو يقبل يده وش وظهر، حامدا الله

على ما أنعم عليه ، قائلا لنفسه :

- علىّ من الأن أن أقلع عن شقاوتى.. نعم وسأكون شخصا آخر حتى لايغضب منى أحد بعد اليوم

وذلك وعد بينى وبين نفسى ..

ظل أبن بديعه الشقي يتذكر ما حدث منه تجاه الناس الذين ضايقوا منه من مقالبه وهو يريدون

التخلص من هذا الداء ، لأنهم لايسلمون من مقالبه الشيطانيه ، الأن عرف خطأه الذى ارتكبه فى
حقهم  بعد أن حصل على الجلباب الجديد والحذاء أيضا.

من سنوات مضت وهم يحاولون اصلاح حاله ،لكنه كان يرفض كل من مد له العون ،فطاره يقطع

ملابسه وطاره يرمى حذاءه فى الترعه حتى يأسوا منه فتركوه على ماهو عليه.

بعد أن وصل قابيل لم يبرح أبا ربيع وزوجته الدار ،أغلقو عليهم بابهم ،وكأنهم يحتفلون به ، أرادوا

أن يعرفوا منه كل كبيره وصغيره فى حياته ،  يسألونه عما كان يدور في الكويت.

وكيف كان الحال هناك ؟

كان يجيبهم على كل أسالتهم ، حتى صمتوا فاجأه وعيونهم جاحظه له ، كأنما ألدغتهم عقربه في

ألسنتهم فأوقفتهم عن الكلام ، بعدما سمعوا أنه تزوج من بنات الكويت ، وقد رزقه الله بولد صغير.

رنت هذه الكلمه كالصاعقة المدويه في أذانهم ، وقد نهض أبا ربيع واقفا بعد أن كان متكئا على

فراشه وهو فى قمة السعاده ، زاعقا :

- كيف حدث هذا ؟

مالهم بنات بلدنا ..

مالها بنت الشيخ رجب ابوالنور.. أو أبنة سليمان ابوكساب.. أو كماله بنت ابو سالم أو غيرها

وغيرها هل لا يعجبوك.

أضافت زوجة أباربيع وهى غاضبه قائله :

- كماله بنت أبوسالم ..  بنت كُومل وبنت أصل.. وحلوة وجميله طول عمرها في حالها.. ويشهد لها

أهل الكفر بالادب والاخلاق.

قال قابيل وهو يريد تهدئتهم :

- ارادة ربنا وليس لي يد في هذا النصيب يا امى ..

جلس أبا ربيع مكانه وسلم أمره لله ,وقلبه يتمزق حزنا على ما فعله أبنهما ، لانهما لايملكان فعل

أى شئ هو وزوجته ، ثم قال والغيظ يملأ صدره :

- النصيب غلاب يا أم قابيل..

ولا نعلم من نصيب من !!

لأن المكتوب على الجبين لابد وأن تراه العين.

ثم وضع رأسه حول كفيه وهو حزين ، لايريد أن يرى وجه قابيل ، وأمه أيضا قد توارت بوجهها

عنه منشغله فى أعمال الدار.

                                           *             *           *
                           .                       .                   .              
 

-15-

ندمت فاتن على مافعلته , وأستحقرت نفسها ,لأنها فقدت أعز ما تملك ،وبدت فى حياتها وثمة

عار،غرتها ملذات الدنيا  حتى قادتها الى الهلاك ، فأين ستذهب بعد هذه الوثمه من العار التي

فعالتها ،وبأي وجه ستواجه الناس .

غدا سيظهر المستور ويصير فضيحة مدويه على ألسنة الناس التى لا ترحم.

ذهبنت مطباطئة الخطوات ذليلة النفس ناكسة رأسها الى شقتها ، ووجهها يملائه الحزن والغضب 

, فنطفأ بهاء وجهها , وتغير قبحا وشحبا بعد أن كانت مقبله على الحياة بكل حيويه ونشاط ، كأنها

لاترى الا الظلام الاسود القاتم فقط .

لاينقطع الدموع من عينيها التي أنهمرت على وجنتيها كما لوكان سيولا تنحد من شلال، تبكى

صامته مكبوته فى نفسها ،اذا أنفجرت فى البكاء فلا يستطيع أحد أن يمنعها من السكات.

كيف تصنع الآن ؟

تتخلص من نفسها للابد وتدفن عارها بيدها .

أم تسلم نفسها لتيار الهوى ليجرفها حيث يشاء .

أخذ التفكير يراوضها ، وكأنما حل برأسها مرض خبيث علاجة الموت ، فلا يتركها الا وأهلكها ،

ثم تركت القدر المكتوب يلعب دوره ،لأنها لم توصل الى حل حتى وصلت شقتها التى جائت اليها

من البلد لتسكن فيها بعد خروجها من المدرسه ، وكانت في الطابق الثالث من العمارة , وكلما

صعدت الى طابق سمعت من خلف الباب زوجان  يتسامران , فتقف لتسمع صهيلهم وصياحهم

بالضحكات ، تسمع الزوج وزوجته وهم فى لحظة نشوى الحب والهيام .

فكان يحرك نشوتها في الرغبه الى الزواج .

وعندما صعدت الى الطابق التالى سمعت صوت الزوجه وهي تداعب زوجها ، تلك هي المعاشره 

معاشرة الازواج مع زوجاتهم بالحلال الحلال الذي شرعة الله وكان أصواتهم ينبهها الى الحلال

وليس الحرام .

ولكن شتان ماحدث لها ، وما يحدث خلف الابواب المغلقه ، فما حدث لها الا الحرام ،وما ينعمون

فيه فهو حلال شرعا.

ثم صعدت الى شقتها ووقفت أمام الباب تتحسس المفتاح وأصابع يدها ترتعش ، وعندما دخلت لم

تجد زميلتها هناء فنتهزت الفرصه وأسرعت لجمع ملابسها ، ثم لفتهم في بؤجه كالبؤجه التي

خرجت بها من القريه، ولوحت بها في عرض المصرف .

مشهد يتكرر مره أخرى في حياة فاتن، في المرة الاولى خرجت من القريه بالبؤجه وهي غاضبه

من أهلها متمرده على عيشتهم الفقيره ،والثانيه خرجت لكن هذه المرة تحمل جريمه حمقاء ،ستظل

ملتصقه بها الى أن يجعل الله لها سبيلا.

تركت فاتن زميلتها قبل أن تعود وتعرف ما أقترفته من ذنب كبير , وتركت الدراسه التى آتت من

أجلها الى البندر , وحلمها الذي تلاشى في لحظة ..

وصلت الى الشارع ولم تعرف أين ستذهب ،لاتعرف أحد هنا في هذه المدينه الواسعة التى يعيش

فيها أهلها وكأنهم غرباء عن بعضهم البعض ،فالجميع هنا لايهتم الا بنفسه فقط ،ليسوا كالقريه

يعرفون بعضهم بعضا ،يودون بعضهم فى السراء والضراء ،يتزاورون فى المناسبات وغبر

المناسبات .

ظلت تفكر ..

في أى طريق تسلكه ؟!

هل تحقق السعادة المنشوده التى تحلم بها في الطريق التى تسلكه كما كانت تحلم، رغم مأساتها التى
ألتصقت بها .

في اى طريق تنسى الحادث المؤلم .

كان الظلام يكسوا الافق , بعد ما غابت الشمس  بقرصها الاحمر في عين حمئه، كأنما تتعجل في

الاختفاء سريعا حتى لاترى وجه هذه الخاطئه.

 سارت على جانب الطريق ، وهي لا تدري أين هي ذاهبه ،وأين تكون أول خطواتها ؟

سيكون للتوبه والندم والرجوع الى اهلها في البلده التي تربت فيها بين أهلها الذين لا يعرفون

الغضب والذين يتعاطفون ويتسامحون ، فلو رجعت عفوعنها وكفرت عن ذنبها ، أم ستتجه الى

الهوى الذي يقودها الى عالم الرذيله وطريق الشيطان الذى يغويها الى ملذات الدنيا وشهواتها ،

والجرى وراء طريق الشهرة الحقيقية , بمعرفة الشباب الضائع المنحرف , والتردد على

الكابريهات والصلات المشبوهه الفاسده، وتجرع الخمر فى البارات ..

أمام عينيها طريقان أحدهما طريق الخير والتوبه ،وثانيهما طريق الشر والرزيله ،وعليها أن تحكم

عقلها وتختار.

(يا أيها الذين أمُنوا لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنُوب جميعا)

هكذا تلا هذه الآيه الكريمه  الشيخ عبدالله ذات يوم فى خطبة الجمعه.

وظلت قدمها تقودها في السير على الطريق حتى دخلت زقاق فى نهاية الشارع الواسع، قد شد

أنتباهها مشهد وقفت تشاهده  باستغراب وتعجب ،فكان يوجد على يمين الشارع مسجدا فخما ذو

مآذن أربع عاليه شاهقه شامخة تعلو في الافق الواسع ،وقد بدا كتحفة أثاريه , يبهر عين ناظريها .

ومن الجانب الآخر الأيسر منه صالة خمر , معلق عليه من احدث الزينات التى تجذب أنتباه

زبائنها بنورها المتلألأ الوضاء ..

به أوناس يدخلون ويخرجون و يتمايلون يمينا ويساراً يتجرعون الكؤس الخمريه ،وأوناس أخرون
يصطحبون فتيات شبه عاريات ليتسامروا معهم فى الداخل .

ساكنه الشيطانحتى أذهب بعقولهم وسول لهم الدنيا بالرزيله والفحشاء والمنكر .

حقا عجبا أن يكون هناك شارعا به مسجدا وفى المقابل خمارة .

هذه صدفه ، صدفه غريبه وعجيبه من نوعها.

عجيبه بأن يتجمع الاثنان في مكان واحد، وكأنهما يذكران الانسان  بالصواب والعقاب ،بالخير

والشر،وبالجنه والنارليرى مدى عزيمة وقوة الانسان التقى لربه ،وضعف نفوس من عصى ربه.

هذا المسجد يدخله مصلون وقد ملئت وجوههم نور وتقوى .

معظمهم من الشيوخ الكبارالكوهال .

أما رواد الصاله فمعظمهم من الشباب الصغار، تلك هي الدنيا " شياطين , وملائكه "

راوضها عقلها ورسم لها متعة الدنيا بالزينه واللعب والمرح والسهر،لتحقق حلمها التى حلمت به

وجاءت من الكفر من أجله .

هل ترفض هذا الحلم بعد أن بدأ يتحقق !!

أم ستختار طريق التوبه ،خصوصا بعد ما ذكرت أيه الرحمه التى سمعتها من الشيخ عبد الله أمام

الجامع.

وقفت تنظر لحظات تجاه باب البار لترى راوده وهم مخمورين في ملازتهم الشيطانيه ، من فتيات

وشباب ضائع فى هوى الرزيله ،واتجهت بنيتها نحو البار لكي تجد ما تبحث عنه ،ساورها عقلها

بأن تفعل ماهو  أكبر من ذلك ،بجسدها الممشوق وجمالها الذى يلهث وراءه بعض الطامعين فى

أنوثتها.

طغت عليها حلم الامس وطريقه الكاذب .

وقبل أن تخطوا خطوة سمعت نداء الحق ينطلق من مأذنة المسجد .
- " الله اكبر " الله واكبر"

تسمرت قدماها فى الارض ،وكأن شيئا قبض على صدرها فأحست بقشعريره،وخفق قلبها بين

ضلوعها حتى وقفت مكانها الى أن أنتهى الآذان ،فهرولت تجاه المسجد وكأنها أسيره فك سجنها.

 بخطوات سريعة وصلت الى سلم المسجد، وجلست بجانبه تبكي , لأنها تريد طريق التوبه والندم

على ما أقترفته من ذنب, وقد وجدت فى نداء الحق أن تبادر بالإستغفار قبل أن تنجرف نحو

الرزيله، رغم غرائزالشيطان ووساوسه بدس الملذات فى صدرها.

ظلت وقت طويلا حتى قضيت فريضة العشاء , وبدأ المصلين يخرجون من المسجد للذهاب الى

مساكنهم واحدا تلوالآخر، فمنهم من يذهب الى بيته , ومنهم من يذهب الى القهوه أو الى صاحب له

ليزوره حتى يقضى ليلته في سعاده وهناء.

وتبقى الشيخ أدريس في المسجد قليلا بعد خروج المصلين، يزيد من الدعاء لله حتى يفرج الله عليه

ويهديه الى طريق الخير والفلاح .

وخرج الشيخ من المسجد قاصدا مسكنه، فوجد فاتن بجانب السلم تبكي بكاءا شديدا أخذ بيدها ،

وسألها عما تبكي في هذا الوقت .

نظرت اليه فاتن في وجهه فوجدت فيه السماحة والتقى والنورالذى يشع من جبهته، لايتخير عن

الشيخ عبد الله أمام مسجد القريه ،وسرعان ما أطمأنت له، وكانت لحية الشيخ الطويله تجعله ذو

طلعة مشرقه تملأ وجهه وقارا..

كان يجعل فعل الخير سبيله الوحيد الذي يسعى من أجله، بمساعدة المحتاجين، لا يتخير عن الشيخ

عبدالله الذى تعرفه، طلب منها أن تقص عليه حكايتها ، فروتها له فى عجاله والدموع لا تكف عن

السقوط على وجنتيها. 

عرض عليها مساعدتها  بأن تسكن مع زوجته، وأن تعيش معها وتكون له بمثابة أبنته .
فى بادئ الامرتوجست منه خيفة , وظنت أنه مثل الشاب الذي غر بها فى غفله بعد أن صدقت

كلامه المعسول الزائف .

لكن كانت بصيرة الشيخ كانت أقوى ،فعلم بما تفكر فيه ،لأن فراسة المؤمن داله على تقاه تجاه ربه.  

صارحها بالحقيقة التى تخاف منها , فوقفت حائره تفكر ولم تجد الا ذلك الخيار , لأنها هابت أنياب

ذئاب البشراذا راؤها في تلك الليل الدامس، خصوصا وهي في مكان لاتعرفه ، فلا مفر من الذهاب

معه وليكن مايكون.   
                                         *           *           *
     
  
ــ 16 ــ

أشتد الحزن على أم فاتن بعد ما أعتقدت بأن أبنتها فاتن قد غرقت فى المصرف بالفعل,فزداد عليها

المرض ويأس من حالتها التى تدهورت ,وبدت مشرفه على الموت ، سلمت أمراها لله وحده ليفعل

بها مايشاء، تاركة الاحداث الدنيويه بمرها وحلوها وبعد أيام وافتها المنيه فانتقلت الى دار الأخره.

حزن عليها أهل الكفر جميعا كبيرا وصغيرا,رجالا ونساءا،وخرجوا يشيعونها فى مشهد كبير،

ودفنت فى مقابر العمده ،وكان هذا نوع من الخير الذى أعتاد العمده أن يفعله معها حتى بعد مماتها.

ماتت الام العجوز وهى غاضبة على أبنتها ،التى تركتها وحيده وأستراحت من مشاكلها ومشاكل

الدنيا وعناءها وقهرها على أبنتها الوحيده التى خرجت عن طوعها .

جلس الشيخ عبدالله يتلو من آيات الله البنات فى دوارالعمده، والعمده يقف فى المقدمه هو وابراهيم ا

الصغير يأخذو العزاء، أهل الكفر يخرجون وأخرون يدخولون يجلسون على المقاعد المتراصيه  

أزدحم المكان بالمعزين حتى مأمور المركز قد حضر الى الدوار فور علمه بالخبر.

 وقف العمدة يتمتم بكلمات لاتفهم .

-  ماذا أتى بالمأمور الأن ؟

لابد أنه قد أتى لمهمه رسميه .. أو أتى عندما سمع بموت أم فاتن للعذاء.. مالذى وراءك يامأمور

المركز ؟

لأول مره تحضر الى البلد لعذاء .. وعزاء منّ  العجوزأم فاتن ..لاهى شخصية فذه من الشخصيات

المسموع بها ..ولا تمت بصله لك . 

أنها العجوز الضرير التى لاحول لها ولا قوة ..

وبعد أن رحب به العمده ،جلس المأمور يسمع التلاوه ،فى وقت العصارى أقيم العزاء، وغص

الدوار بالناس الذين توافدوا عليه حتى أداء صلاة المغرب ، بعده فرغ دوار العمده منهم ,فلا يبقى

الا الاقارب مثل الشيخ عبدالله وابراهيم والمأمور الذى اتى على غير عادته،ولم يفهم أحد منهم سر

مجيئه .

مص الحاضرون شفتاهم يفكرون ما الذى أتى بالمامورهذه اللحظه،وماالمهمه التى حضرمن أجلها

- بعد قليل سنعرف.

دار الحديث عن أحوال القريه بين المأمور والعمده فى ركن الدوار .

وابراهيم والشيخ عبد الله يجلسان فى الركن الآخر يسود وجوههم الصمت .

قال المأمور :

- أتيت اليكم اليوم لأزف بشرى لأهل الكفر..

كان صوته عاليا فسمعه من بجانبهم، فتعجبوا من أمره ،وظلوا يحدقون فى وجوه بعضهم البعض ,

يتسألون :

- أى بشرى أتى بها المأمور لهذا الكفر..

غمغم العمدة قائلا:

- بشرى!!

أى بشرى يا سيادة المأمور..

قال المأمور وهو يرى لهفتهم على معرفتها:

- هذه البشرى لم تكن فى الحسبان.. جئت لأبشركم بقدوم السيد المحافظ الى الكفر..

فوجئ العمدة بكلام المأمور,ثم قام وصاح :

سيادة المحافظ .. سيادة المحافظ  شخصيا سيحضر الى هنا .. فى بلدتنا ..

يا هناك يا سعدك يا قريتنا..
قطع المأمور فرحة العمدة ثم قال:

- سيأتى  سيادة المحافظ الى هنا لوضع حجر الاساس لعدة مشاريع.. منها المستشفى والمدرسة

والسنترال..

علا صوت همهمات الحضرين..

ولم يصدق العمدة مايسمعه فنخرط فى الضحكات العاليه ،ثم تذكر وجود المأمور بجانبه ، وأيضا

موت أم فاتن التى لا يمرعليها الا عدة ساعات قليلة ,توقف عن الابتذال فى الضحكات العاليه

وعلل صيحاته قائلا:

- أننى لا أتملك فرحتى لما أسمع من سيادة المأمور.. مُحق ابراهيم الصغير عندما تحدث عن

الخدمات التى تحتاجها قريتنا..

بعد أيام قلائل سيحرك سيت المحافظ عملية دخول الكهرباء التى توقفت منذ عام والأعمدة التى قد

أصابها الصدأ ، وأكلتها البرومه..

هذا اليوم سيكون بمثابة عيد وطنى عندنا فى قريتنا نحتفل به كل عام..نودع الفقروالمرض والموت

ونستقبل الصحة والغنى والحياة الجديده..

مُحق ابراهيم فيما قاله عن القريه المعدومه من الخدمات كالشريان الذى لا يسرى فيه الدم كأنما

كان يقرأ الطالع .. أو يضرب الودع .

أعوذ بالله.. كذب المنجمون ولو صدفوا ..

لكن أحساس ابراهيم بمشاكلنا كان فى محله ولكننا كنا لا نصدقه .. فهو على بصيره بمن نحتاجه

وتحتاجه كل قريه  من خدمات..

راح العمدة فى وادى من التفكير فيما سمعه من المأمور ،ونسى بأن المأمور ذات نفسه جالس معه

فى مكان واحد يتحدث معه ، كان العمده يتحرك فى جانب من البهو وهو لا يكن فى وعيه ،ففوجئ
بكسر القله الزجاجيه المملؤه بالماء البارد عندما أصتدم بها,والتى أخرجته من سرحانه ,فوقفته عن

فرحته .

كان عمال الدوار فى ذات اللحظه يضعون صوانى الطعام المليئه بالفطير المشلتت المغمور فى

السمن والذبد والعسل الابيض، فلتهم المأمور قطعا منها دون هواده .

فأنه يحضر الى الدوار من حين لآخر ليتذوق هذه الوجبه ،لأن هذه الأنواع من الأطعمه لاتوجد

عنده فى المركز.

مسكين المأمور لا يوجد عنده هذه الانواع ، ولا يجد مثلها الا عند فلاحين القرى فقط ،كما أننا نحن

أيضا مساكين لكن مساكين من نوع آخر، مساكين بانعدام الخدمات اذا أراد المأمور الفطير حملناه

اليه حتى مسكنه ، ولو أردنا نحن الخدمات فكيف لنا بها. 

لا بد من" مال"

والمال على الأد ،مرتب الحكومه ضئيل،يدوب نعيش منه انا وأمرأتى بالعافيه ،من أين لنا بالطوب

والاسمنت لكى نساهم فى إنشاء مدرسه للوزارة أو مستشفى للصحه .. أو...أو..

أفاق من شروده ونظر للمأمور يحدق فى وجهه وهو يلتهم الفطير بلا هواده .


                             *              *             *
                       ــ17ــ

أنتهى المأمورمن طعمه, فسكب الخفيرعلى يديه  الماء البارد من أبريق نحاسى  وناوله قطعة

الصابون لكى ينظف يده من تلذقات العسل والسمن ، ونشف يده بالفوطه المعلقه بجواره على

الشماعه ،ثم حمد ربه على هذه الوجبه الدسمه ،وقد احضر الخفير كوب الشاى المظبوط بسرعه

،فتناوله مع العمده والشيخ عبدالله وابراهيم ، ودار بينهم حديث عن الاستعدادات لزيارة السيد

المحافظ .

وقد ترك المأمورالعمده لاعداد المكان المناسب الذى يستقبلون فيه المحافظ ،تتشرد أفكاره.

كيف يصنع!!

وماذا سيفعل لهذا الحدث الذى ينظرونه  !

من هذه اللحظه ستثقل مهمة العمدة على كاهله ،لأنه ممثل الحكومه فى البلد، وأنه مسؤل مسؤليه

كامله أمام المأمورلاستقبال المحافظ ،وعليه أن يستقبله أستقبال حافل يليق به كرجل مهم فى الدوله.

من البارحه وبعد أن ترك المأمورالدوار، وإبلاغ العمدة بقدوم المحافظ لا يغمض له جفن ولا ينام,

فانتابه تفكير متواصل يبحث عن المكان الذى سيكون فيه الاحتفال بالحدث التاريخى ..

- أين شيخ البلد الذى لاأاسمع له صوتا؟

أين هو .. أليس له رأى فى الربكه التى نحن فيها؟

ونادى بأعلى صوته :

يا خفير ..

جاءه الخفير وهو يمسح  فمه من أثار الطعام بطرف كمه الطويل بعجاله.

- أمرك يا حضرت العمدة.

قال له العمدة :

- أسرع  ونادى شيخ البلد ..

شيخ البلد الذى يضع يده فى الماء البارد..

سمع الخفير كلام العمدة وخرج يجرى مسرعا قاصدا دار شيخ البلد ، والعمدة كأنه أحتاس فى حل

حزبة برمه ،يضرب أخماس فى أسداس، ثم حضر اليه ابراهيم والشيخ عبد الله الذى دبت فيه

العافيه وشفى من مرضه ، ليشرك العمدة فى هذه المهمه القائمه.

وقد وجدوا العمدة فى توتر،لأنه لم يتوصل الى وجود قطعة الارض التى ينصبوا عليها الصوان,

والتى تساع الجميع الذين يحضرون لاستقبال المحافظ .

طرءت على ذهن ابراهيم فكرة ،أسرع بعرضها على العمدة والشيخ عبدالله ، أقترح أن يكون مكان

الاستقبال الدوار،لأنه أوسع مكان فى القريه, وكان يتقدمه قطعة أرض مملحه يطلع فيها نبات

الهجن والغاب ومن السهل أن يزالوا.

عجبت هذه الفكره الشيخ عبدالله وتحمس لها, وأراد التخلص من هذه النباتات وتصليحها لكى تكون

ممهده تجعل من الدوار اصلح مكان ينصب فيه الصوان.

وبعد أن أمعن العمدة والشيخ عبدالله هذه الفكره فى رأسهم خروا فى الضحكات واشادوا بعبقرية

ابراهيم الفذه ثم قال العمدة :

- لكن ستأخذ منا عمل كثير وشاق..

حضر شيخ البلد على كلام العمدة وأشركهم حديثهم .

- أين أنت يا شيخ البلد من هذه الاحداث ؟

أليس لك رأى فى ذلك؟

أأنك أيضا ممثل الحكومه هنا .
أأنك لست تقوم على مصالحة الناس.. ولك دور فعال بينهم .

أين أنت من هذا كله ؟

لابد وأن يكون لك عمل ملموس لكى تظهر فى الصوره .

أو تحظى بشئ من كرامات سيادة المحافظ .

أخذ شيخ البلد توبيخات العمدة فى جنباته ،وقام على الفور بعد أن أستأذن منهم للحظات ، فقد خرج

ليعلم أهل الكفر كبيرا وصغيرا ويحثهم على حمل فؤسهم ومقاطفهم وجرافانهم  متحدين الايدى فى

إنجاز هذا العمل ،الذى سيستفاد منه الكبير والصغير فى القرية .

فوجئ العمدة وابراهيم والشيخ عبد الله بقدوم عدد كبير من أهل القرية الى الدوار، حاملين على

أكتافهم عدتهم لتصليح المكان الذى أختاروه.

وقامواجميعا بأيد واحده يقصون نبات الهجن، يحملون الردم من الطمى على أعناقهم وأكتافهم فى

المقاطف وإلقائها فى قطعة الارض لينتهوا ردمها .

أهل البلد الذين أتوا لمساعدة العمدة هم أيضا أهل خير, يحبون أن يحضر المحافظ  اليهم لكى

ينعموا بالخدمات التى ستكون على أرضهم , أنهم لايبخلون بشئ حتى يكون الاستقبال مشرفا.

جاءت الفراشه محمله على عربات النقل ،فقد أسرع العمدة بانتدابه من المركز .

أنزلوها وقاموا بانشاء الصوان .

لابد وأن المحافظ سيرسل ماكينة ديزل لانارة البلد ، فهى تنار لأول مرة بالكهرباء، دون لمبات

الكيروسين الخافته ..

العمدة يقف يترقب الحركة الدائبه هو والشيخ عبد الله ..                                        

وابراهيم يقوم بتوزيع المشروبات الساخنة والبارده التى تاتى من داخل الدوار على العمال .

والخفراء يحرسون القرية من كل الاتجاهات لتأمين المكان.
سيادة المحافظ شخصيه مهمه ، شخصيه كبيره لها وزنها .

ولابد وأننا نستقبله أستقبال حافل يليق  به .
                        
                                           *                 *               *          
                         
                           -18-

جرارات حرث زراعيه بدأت  تظهر على الطريق , وقد بلغ عددهم سبع جرارت ، وبلد وزرات

تقوم بتوسيع الطريق من الجانبين للبدء فى رصفه.

وأدوات الرصف حضرت الى الموقع يتقدمها عمال كثيرون من الطرق.

بدأ العمل على قدم وساق بين عاملين ومشرفين ومهندسين متخصصين دون تكاسل، الكل يعرف

عمله وموقعه ،كأنهم يشبهون خلية النحل.

من إشراقة الشمس يجهدون أنفسهم جهدا شاقا, لكى يسرعوا فى الانتهاء من عملة الرصف قبل

يوم الزياره.

كل القريه كبيرهم وصغيرهم يقفون بجانبهم لحظه بلحظه ويدا بيد، والنساء أيضا يحملن لهم

الاطعمه والمشروبات فى المواقع وكل ما يحتاجونه من خدمات ،فرحه غامره تعم قلوبهم ,لأنهم

كانوا يريدوا هذا الحدث منذ زمن طويل.

وها هو يتحقق اليوم على أرض الواقع.

من الجانب الآخر بدأت عملية تفريق الاعمده التى يخصصونها المسئولين بعد ما يقومون بقياس

المسافات بينها .

إن زيارة السيد المحافظ أسرعت فى تنفيذ الخدمات فى القري ، بعد أن كانت معدومه منها .

يا ليت كل محافظ يزور القرى المحرومه كقريتنا هذه لستراح أهلها من عناء الروتين.

وقف العمده والشيخ عبد الله يشاهدان حركة العمال وحماسهم الذين تسابقوا الى إنجاز العمل.

قال العمده مستريحا:

- ماذا كنا نحن من هذا العمل؟

لولا زيارة السيد المحافظ ما كان هذا الإنجاز فى هذا الوقت القياسى.

حتى ولو أذانا فى ما لطه..

قال الشيخ عبد الله :

- قدر الله وما شاء فعل يا حضرة العمده..

هذه إرادة الله.. وليست إرادة المحافظ.

قال العمده:

- ونعما  بالله..

لاتنسى ياشيخ عبد الله إن لكل شىء سبب.

أطلع الشيخ عبد الله للعمده عن عناية الله ، فإذا اراد شىء فإنه يقول له كن فيكون ،وما يحدث الان

هو رضا الله علينا وعلى بلدتنا هذه ..

فى حين جائهم شيخ الخفر يبلغهم عن إتمام العمل على أكمل وجه ،وكل شىء مُعد لإستقبال السيد

المحافظ..

ذهبوا الى الموقع ليستطلعوا ما تم إنجازه ،ثم حضرت قوه من الشرطه لتأمين المكان الذى سيشهد

ذلك الحدث، وكان المأمور على رأسهم يدلى بتعليماته لمن تابعوه حتى يكون المكان على أكمل

وجه ، وأن يكون مشرفا أمام المحافظ والمدعون معه .

أشاد المأمور بالمنصه المعده لإستقبال المحافظ ،وكذلك المسرح الذى يجلس عليه أهل القريه

عندما يخاطبهم منه السيد المحافظ فى بعض مشاكلهم .

وأبدى المأمور بسعادته وسروره للعمده عن ذلك الإنجاز الذى سيجمع السيد المحافظ فيه مع أهل

قريته ، وسيكون هذا اليوم مشرفا لأهل القريه جميعا والمحافظ  أيضا حتى يلبى طلباتهم ولايبخل

عنهم بإنشاء الخدمات التى يحتاجونها ويحلمون بها ويتمنون أن يرونها رأى العين ، ثم أكد له

العمده على أن يكون هذا اليوم سيكتب فى تاريخ القريه، لأن هذا الحدث بدايه للإنتقال بالقريه الى

الافضل.
                
                                          *            *    

ــ19ــ
أخذ الشيخ إدريس فاتن وذهب بها الى بيته فى أحد الشوارع المجاوره للمسجد الذى كان يصلى فيه

فكان يسير أمامها وهى تسير من خلفه، وهى لم تكف عن البكاء ،فنهمرت الدموع على وجنتيها.

ووصل بها الى البيت ثم طرق الباب،فتحت له زوجته الحسناء فى مظهرها والمحتشمه فى ملابسها

وجهها يشع منه نورا وبهاءا،ترتسم عليه ابتسامه عريضه ،مرحبه به أشد ترحيب ،وكأنهما مازالا

فى عز الشباب.

أمر فاتن بالدخول فدخلت باستحياء ،فوقفت زوجة الشيخ تتأملها لكنها لاتتفوه بكلمه إلا أن يأذن لها

الشيخ بالكلام ، وتعرف  زوجها الشيخ إدريس بأنه على خلق كريم.

وعندما دخلت فاتن بهو الصاله، دخل هو وزوجته الى حجره مجاورة ليحكي لها عن تفاصيل ما

تراه .

 وبعد مرورعدة دقائق وقد ألما بها بتفاصيل القصه , خرجت الى فاتن مرحبة بها وعلى وجهها

البشوش علامات الرضا حتى أحتضنتها بحراره .

جلس الشيخ ادريس يواسي فاتن عما بدر منها ،وطلب منها بأن تكون مثل أبنته تماما ، وكل شئ

تحتاجه يجاب فى الحال، فرحت  فاتن لأنها وجدت القلب الحنون الذي فقدته منذ أن حضرت الى

البندر للتعليم .

وطلب منها الشيخ ادريس بأن تدخل لتتوضئ حتى تصلي ركعتان لله فاستجابت ونفذت ما طلبه

الشيخ منها،قامت لتصلى وفى أثناء صلاتها دخل الشيخ على زوجته ،وأمرها بإخلاء الغرفه من

محتويتها القديمه على ان يوضع غيرها , ليكون المكان مهيأ لراحة فاتن ،أستقبلت فاتن القبله ثم

صلت الفريضه ،وركعتان شكر لله .

جهزت زوجة الشيخ ادريس الطعام ، وجلست فاتن تأكل بشراهة لأنها صامت عن الزاد منذ
الحادث الذي وقعت فيه، وبعد أن أنتهت من الطعام جلست تبكي بين يدي الشيخ الذي حاول 

تخفيف آلامها .. قائلا :

- إهدئي ياابنتى مادمتي صليتي وأهتديتي بنور الله .. فإن الامور ستكون على مايرام .

وتلا الآيه الكريمة :

-         ( يا أيها الذين أمنوا لاتيئسوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) .
   

قالت فاتن بعد  أثلجت الآيه الكريمه صدرها :

- ونعما بالله ..تبت الى الله ..

 أطمئن قلبها كثيراً تجاه هذا الشيخ التقي وكلامه الذي طمئنها أكثر، وحكت له عن سبب خروجها

من القريه الى ان وصلت الى هنا ..

- ولكن هذا درس لابد أن تتعظي منه .. وأن تعودى الى أمك ترجوها في أن تسامحك حتى ترضى

عنك ..الحمد لله أني وجدتك في طريقي قبل أن تنجرفي الى تيار الهوى ..

هوى الشيطان ....ياأبنتي .

هزت فاتن رأسها بأسى وعيناها منكسرتين ثم إزدادت في البكاء رافعة يدها الى السماء.. قائله :

- الحمد لله ..الحمد لله الذى نجانى ..

نعم كنت قد فقدت الأمل على أن أسمع هذا من رجل تقى مثلك..

فان الدنيا مازال فيها أتقياء يعرفون حق الله

هدأ روع فاتن من تلك الصدمه التى كادت أن تحطم حياتها الى الأبد بمقا بلة الشيخ ادريس  التقى

الذى عطف عليها كأبنته تماما, وأرشدها الى طريق الهدايه الفلاح قبل أن يأخذها الشيطان بغروره

الى عالم الرزيله والفحشاء.

وبعد أنتهاء الحديث الذى دار بنيهما ،همّ الشيخ بأن يتركها فى الغرفه لتستريح ،وإذا بها يستقر

بصرها على صورة فتاة جميلة تبهر العين عندما تشاهدها معلقه على الحائط ، ثم وقفت تتاملها 

بضع دقائق ،وأرادت أن تعرف من الشيخ  سر هذه الفتاة .

قالت فاتن :

 - منّ هذه الفتاة الجميلة ؟!

 قال الشيخ ادريس متاثرا :

 - أنها إبنتى .. قمر ..

 - وأين هى ؟!

 - هى فى بيتها تعيش وحيده ..  

سكتت  فاتن تتامل فى كلام الشيخ الغامض، ثم أستردت قائله :

- وحيده !!.

 قال الشيخ متأئرا:

- نعم منذ سبع أعوام وهى تعيش وحيده ولم أراها .

أحتارت فاتن فى فك اللغز الذى قاله الشيخ ادريس ،وظلت تفكرتتسائل فى نفسها .

- ما الذى أضطر لفتاه جميله بأن تعيش بعيده عن أبيها منذ سبع أعوام .

وكيف يترك هذا الجمال الفاحش يعيش بعيدا عنه طول هذة المده .

لابد أن لهذه الفتاه حكايه كبيره .. ولا يهدأ الى بال الا واذا عرفتها .

ظلت تفكر لحظات حتى نسيت أنها تقف أمام الشيخ ادريس.

ثم نبهها قائلا :

- الى أين ذهبت بعقلك يا فاتن ؟!

قالت فاتن بعدما أفاقت من التفكير العميق الذى إنتابها :

- أريد أن أراها .. فهل من الممك ؟

قال الشيخ إدريس :

- نعم .. غدا بمشيئة الله سأصطحبك إليها لتراها .

تركها الشيخ  وخرج من غرفتها حتى تنام بقيه الليل الذى فات ثلثه ، وقصدت مخدعها لتنام قليلا,

ليذهبا معا إلى حيث تسكن قمر، وكانت تستعجل طلوع النهار بفارغ الصبر، لتعرف حكاية قمر

وسرأبتعادها عن أبيها الشيخ إدريس وأمها كل هذه المده .
                
                                      *              *               *
                                                     
                                                     

                                                     ـ 20ـ
إجتمعوا أهل القريه لليوم المنتظر , يوم زيارة السيد المحافظ , وحضرت آهالى كثيره فى ذلك

الصوان المعد لأستقباله ،رجال ونساء وأطفال جميعهم جالسون فى مقاعدهم فى مسرح المنصه

ومن الأمام يجلس كبراء القريه ،مثل العمده وشيخ البلد والشيخ عبد الله وإبراهيم أيضا.

بعد قليل بشرهم أبن بديعه بقدوم المحافظ ، وحضر موكب السيد المحافظ الى الصوان فقامت

الآهالى بالتصفيق الحاد حتى دخل المحافظ وحياهم جميعا، ثم جلس على مقعده وبجواره السيد

المأمور.

وبدأ الحفل بتلاوه من القرأن الكريم بصوت صبى من صبيان القريه الذى هز أرجاء الصوان

بصوته الرائع ، عرف الشيخ عبدالله أن فى القريه مواهب لابد من رعايتها.

وبعد إنتهاء التلاوه صفق له المحافظ والحاضرين تشجيعا له ،وقام المحافظ يصافحه مهنئه على

صوته الجميل.

وبدأ المحافظ فى التعريف بنفسه , وسبب زيارته اليوم ، ثم تحدث عن الانجازات والخدمات في

القريه وغيرها من المنشأت الحيويه التى تخدمها وتخدم كل فرد فيها.

فى هذه الحظه أنفرجت أسارير إبراهيم , وأراد أن يتحدث مع المخافظ ليوضح له يعانونه من

نقص فى الخد مات والمرافق  .

أشارالمحافظ ببدأ الحديث وهو يشتاق لما يخرج من فم هذا الصبي الصغير..

- تكلم ..                          -

بدأ ابراهيم حديثه قائلا:

- أنا ابراهيم عبد الحق.. من أهال هذا الكفر..من عامة الشعب الذين يعانون من عدم وجود
الخدمات والمرافق التي نحتاجها.. مثل محطة المياه.. والصرف الصحى .. والكهرباء..وأيضا

أنشاء المدارس والمستشفيات لإحتياجنا للعلاج والتعليم.. بدلا من قطع المسافه الطويله الى المركز.

ونحتاج الى مراكز لتعليم الفتيات التى يحلمن بإستكمال تعليمهن فى البندر.

ومثل.... ومثل....

وظل يتعقب النقص المنعدم من القريه ليضعه أمام عين المحافظ للبت فى تنفيذها مع الجهات

المسؤله فى المحافظه.

وكأن إبراهيم قد فجر قضية للسيد المحافظ ، حتى صمت ليسمع مايقوله دون أنقطاع ، وكأنه وضع

المحافظ فى مأزق أمام تصريحاته التى تحسب عليه،ليستجيب لمطالبهم لأنه المسؤول عن

المحافظه ،وعليه أن يكون قد كلامه اذا أعطى لاهل الكفر أملا فى سرعة إنشائها .

 كل هذا فى قريه واحده فماذا يكون فى القرى الأخرى،مايريده ابراهيم ماهو الا الصالح العام ..

وكل هذا هوكالماء والهواء وهو حق لكل مواطن .

كشف إبراهيم الحقيقه للمحافظ عن أخرها، الذى تطوع بنفسه دون الحاضرين ليلقيها عليه، فجعلت

الحاضرين يشيدون بحديثه اللبق  وبعقلته الفذه ..وأنبهر المحافظ منه لما رأى من نباهه وفتنه فى

المعلومات عن مشاكل قريته وهو فى هذا السن الصغير .

فى حين أخذ العمده يفكر فيما يقوله ابراهيم الصغير، وما يخرج منه على لسانه بأفصح الكللام أمام

المحافظ حتى جعل العمده يحتار فى بلاغته ولا يجد أمامه الا أن يحسده .

أنتهى إبراهيم من ذلك الحديث الذى جذب مسامع المحافظ والحاضرين أيضان ثم وعدهم بأن ك

لشئ سيكون على مايرام ، وسيتم إنشاء الخدمات التى تحتاجها القريه فى وقت قياسى وسيبدؤن فى

تركيب أعمدة الأناره أولا.
مضى وقت طويل فى حديث المحافظ لأهل الكفر، وقد وعدهم بأن البدء فى المشاريع ستكون فى  

مطلع هذا الاسبوع ،بهذا التصريح قامت الأهالى تصفق يحيونه وسط هتافات حاشده، وقام المحافظ

وسط تصفيق حاد قاصدا ركبه الذى ينتظره خارج الصوان.

بعد أن تركهم السيد المحافظ وقف أهل الكفر فى حلقات يتحدثون عن الانجاز الذى شهده الكفر

اليوم.

قال العمده للشيخ عبدالله :

- ماذا تتوقع ياشيخ عبدالله .

هل المحافظ سينفذ ماقاله أم لا ؟!

قال الشيخ عبدالله :

- نعم أنا واثق بأن السيد المحافظ سينفذ ماقاله بالحرف الواحد ياحضرة العمده .

قال العمده وهو يتنفس مستريحا :

- على الله .

رجع المأمور الى العمده بعدما ركب السيد المحافظ  ركبه رجعا الى مبنى المحافظه ثم قال :

- أشكركم على حسن تعاونكم .. السيد المحافظ يشيد لما فعلتموه لاستقباله..السيد المحافظ وعدنى

بأن يعجل فى أتمام الخدمات بنفسه على أن يعود

قال العمده للمأمور :

- هذا ما نتمناه ياحضرة المأمور.

ورجع المأمور الى المركز وهو أيضا مبتهج الأسارير لما رآه من تعاون أهل البلد الذى كان لا

يتوقعه .
                                     *                  *                *
مضى يومان من بعد زيارة المحافظ للقريه، ثم أصبح صباح اليوم الثالث ، حتى فوجئ أهل القريه

بنزول عمال كثيرون اليها، آتين من المحافظه لكى يبدؤا فى تنفيذ المشروعات .
بدأوا وكأنهم شعلة نشاط , أنقسم كل فريق منهم الى فرق يعملون فى الكهرباء ,وأخرون يعملون

فى حفر خطوط المياه و المجارى , ومعاينة الارض التى تبنى عليها المستشفي والمدرسه .

وقد خرج عليهم العمده والشيخ عبدالله وإبراهيم ومن خلفهم أهل القريه الذين أبدو بالمساعده ,

فكانت بمثابة عيد قد حل عليهم يعملون بنشاط دون تكاسل أو هواده.

ووقف العمده يأمر وينهى ..

هذا هنا ،وهذا هناك ..

والجميع يسمعون كلامه لاتقصير منهم ،ونساء القريه يجهزون لهم الغذاء فى بيوتهن .

قال الشيخ عبدالله :

- ألم أقول لك ياحضرة العمده .. إذا وعد المحافظ لايخلف .

قال العمده:

- مستحيل هذا يحدث فى أيام قلائل .. كنت أعتقد أنها وعود فى الهواء ..

- البركة فى إبراهيم الذى تحدث مع المحافظ بلباقة وإقتدار ..

- لابد وأن المحافظ عمل له خاطر.. لذلك أمر بسرعة إنشاء هذه الخدمات .

وقف العمده وهو لايكاد يصدق بما يحدث أمامه من سرعه فى الانجاز, كأنما دخلت التكنولوجيا

القريه من حيث لايدرى ، فأيدى العاملين أسرع مما يتصور،حتى ظهرت الإنجازات على أرض

الواقع بسرعه مزهله.

 زرعت الاعمده وحفرت مصارف المجارى , وحضرت المواسير اللازمه لمحطة المياه..

وإبراهيم يقف بجانبهم يدا بيد يساعد هذا ووهذا .

تلك هى فرحة أهل القريه الذين تسابقوا هم أيضا بالمساعده ، وكانوا فى سعاده بالغه ،لقد مضى

اليوم ناجحا من الناحيه العملية ،والناحيه النفسيه للعاملين لأنهم قد حصلوا على حقهم دون تقصير،
لم يكن الكفر من الآن فى ظلام، بل القريه من الآن ستكون كالمدينه فى كل خدماتها ، ولا يحتاج

أولادها للسفر الى المركز للإتحاق بالمدارس هناك كما فعلت فاتن بنت العجوز العمياء ، سوف

ترتاح أولادنا من عناء السفر الشاق أخيرا.

وكل شئ سيتوفر فيما بعد عندما يتم إنشاء الخدمات التى يهتمون بسرعة إنشائها .

وتوالت الايام وكل يوم كان هناك عمل جديد يظهرعلى أرض الواقع ، بهمه ومهاره من عمالها

الدائبون على مواصلة العمل بفرح وسعاده , حتى كادت تنتهى فى زمن قياسى بسيط .
                            
                                    *             *              *
  
   
ـ21ـ
مالبثت فاتن ورأت نور الصباح يظهر فى الأفاق , إلا وهبت واقفه على سريرها التى كانت ترقد

عليه،لأنها ستذهب الى قمر كما وعدها الشيخ إدريس بزيارتها، قامت على الفور تعد الطعام حتى

يرجع الشيخ إدريس من صلاة الفجر،وكانت زوجة الشيخ تعد هى أيضا السفره.

لم تعلم فاتن مأساة قمر التى حظيت بجمال كبيرلامثيل له،وظلت تفكر طول الوقت على سرأبتعادها  

عن أبيها وهى فى السن الصغير..

- لماذا تبتعد قمر عن أبيها ؟!

لماذا تتركه وتعيش وحيده هكذا ؟!                                           

ماذا يخبئ القدر لنا .. نحن فتيات هذه الايام .

قمر تترك أبيها .. وتعيش بعيد عن أبيها وأمها..

وأنا أترك أمى الكفيفه وأعيش بعيدا عنها..

إنها ستعود علينا بالعواقب إذ لم نجد لهذا الداء حلا .

ظلت فاتن عدة دقائق تفكر فى حالها أيضا، حتى دمجت حكايتها بحكاية قمر التى تشبهها , ثم

تحسرت على مايحدث لهما الأن.

ولم تستيقظ من غفلتها إلا بعد وصول الشيخ إدريس من المسجد بعد قضاء الفريضه،حست به يفتح

الباب، فقامت على الفور تستقبله حتى يوفى بوعده ،إرتدت أزهى الثياب , وأخذها الشيخ إدريس

الى زيارة قمر بعد أن تناولا الافطار, حتى تخلل سيرهم الى طريق صلاح سالم قاصدا القبور .

علا وجهها الدهشه ووقفت فاتن متعجبة ، قائله :

- نحن نذهب ناحية القبور..

رد عليها الشيخ وقد ملاء صدره حسره فرغرغت عيناه بالدموع :
- نعم ياأبنتى .. ولم يبقى الا القليل ..

تقدمى ..

سارت فاتن خلف الشيخ إدريس كما أمرها ، ومازالت الدهشه والتعجب على وجهها حتى كادت

تحدث نفسها .

- ما الذى يجعل قمر أن تترك الدنيا وتأتى الى هنا لتعيش فى القبور!!

أنا لاأصدق أن فتاه بجمال قمر تعيش هنا.

أنتابها شئ من التفكير عندما دخلت منطقة القبور, وظلت تحدث نفسها بأقاويل لم تجد لها تفسير

،لكنها الأن سيتبين لها كل شئ بعد لحظات..

وقف الشيخ ادريس أمام قبر، ووجدت فاتن هى الاخرى تقف من خلفه ، ثم أشار الشيخ عن بيت

قمر وقال :

- هذا بيت قمر..

كادت الدهشه تلعثم فم فاتن ولم تقدر على الكلام ، ثم بعد قليل نطقت بكلمات ممزقه

- ب.. ب.. بيت قمر.!!

بل هو قبر ..

قال الشيخ إدريس وفى عينه الحزن :

- نعم ياأبنتى .. هو قبر.. هنا يرقد جسد أبنتى قمر..

الجمال الفاتن .. مصيره يا أبنتى التراب .

بكت فاتن بشده ولم تتمالك نفسها حتى ظلت بعض الوقت تبكى , وكأنها تبكى على نفسها , وهنا

علمت أن الجمال مهما فاق مصيره التراب،وأن الدنيا فانيه زائله ليس لها قيمه .

هدأ الشيخ من روعها حتى سكتت عن بكائها , وقد ضمها الى صدره كأب حنون يحنوا على ابنته

،يهمس فى أذنيها بعبارات وعظ لكى تنسى الطريق الخطأ التى تسير فيه وتعود الى أمها العجوز

تعيش معها،ولا تنظر الى الجمال والشهره فهما نقمتان لايأتى من ورائهما الا المتاعب والهلاك .

رجع الشيخ إدريس الى بيته وفى يده فاتن , وكانت هذه الزياره مفيده لها , عندما علمت أن كل شئ

محجوب عنها وعن بنات جنسها ,فهى الأن لاتعمل للجمال أى إعتبار بعدما أن حثها الشيخ على

إتباع الاخلاق والفضيله فهما البقيان فى الدنيا والآخره، لأن رضا الله من رضا الوالدين.

                             *                    *                     *
نامت فاتن وعلى وجنتيها الدموع، نامت وهى فى صراع مع التفكير فى أمر ذلك الفتاه قمر

المعلق صورتها على جدران الغرفه ، وجاملها الفاتن الذى هو مدفون فى التراب الأن والذى ليس

له قيمه مهما بلغ جماله.

قام الشيخ إدريس ليصلى الفجر, وعند خروجه من البيت فتح باب غرفتها ليطمئن عليها وجدها

نائمه تركها وذهب الى قضاء صلاة الفجر فى المسجد كما هو متعود،وما إن علا صوت الأذان فى

الأفق الا وقد أستيقظت فاتن من نومها قاصده دولابها تلملم فى هندامها , جمعتهم فى بؤجه

وخرجت من البيت قبل أن يحضر الشيخ من الصلاه، وبعد قضاء الصلاه حضر الشيخ إدريس ولم

يجد فاتن، فعرف أنها تركت البيت بعدما رأى دولاب ملابسها خاويا ، فدعا لها بالهدايه والصلاح

بأن تسلك طريق الخير بعيدا الشر.
                            *                 *                 
 
ــ22 ــ
بدت القريه  فى أحدث ماكانت . دخلتها ألانوارالتى اضائت كل مكان فيها .
وانشاءت المدارس والمستشفيات وكذلك محطة المياه والصرف التى عانت منها القريه كثيرا.. وبدت لاينقصها شئ .. ألا اشياء قليله , ستقوم المحافظه بإنشاءها تبعا..
كل هذا تم بعد زيارة السيد المحافظ.
وصارت القريه قريه نموزجيه مكملة الخدمات .
لاتسع فرحة أهليها بما حدث لهم فى هذه الايام القلائل .. كل مايحلمون به تحقق وعمت الفرحه أيضا وجوه الصغار والكبار , حتى كادوا يهنئون بعضهم إذا التقى بعضهم ببعض ..
وكذلك العمده الذى ضايف كبراء البلد فى مضيفته بالدوار .. وعلى رأسهم الشيخ عبدالله وإبراهيم . يتحدثون ويحكون ما حدث لهم فى تلك ألايام التى تعاونوا فيها مع رجال المحافظه .
وحلا السهر عند العمده فى هذه اليله المقتمره من الصيف الجميل الكل يتحدث بما عنده من أشياء .. أحديث وأقاويل تتحاكى من كل الجالسين . قهقهه وضحكات صاخبه.. أوانى ومشروبات توزع عليهم من العاملين بالدوار ..
إلتفت العمده الى إبراهيم قائلا :
الا تطربنا ياإبراهيم بنايك الجميل ؟
على الفور أخرج أبراهيم الناى من تحت سرواله .. وجلس يعزف به وسط  أنتباه الجالسين الذين ينصتون اليه فى شوق وتشجيع منهم .. حتى مرا وقت طويل على عزفه بالناى .. ولما أنتها لقيا تشجيعا حارا وستحسانا من الجميع .. فرح إبراهيم أشد فرح . وإبتهج سرورا على تلك السهره التى قضاها مع أهل قريته بعدما تحقق حلمه الذى كان يحلم به وينادى به..                                       
أقترب موعد الفجر , قام الشيخ عبدالله ومعه إبراهيم قاصدا المسجد لاداء الفريضه جماعه مع المصلين , وعلا صوت المؤذن فى ألافق .
(الصلاه خير من النوم )..
دخل وتوضأ ثم أقامت الفريضه لله ،وبعدما انتهوا منها أمهل الشيخ عبدالله المصلين بعض الوقت ثم إقترح عليهم بأن يصلوا ركعتان شكرا لله لما أنعم الله عليهم بتحقيق تلك الخدمات التى دخلت القريه .
أدوا جميع المصلين تلك الركعتان .. وخرج كل منهم رضيا حامدا الله على ما أنعم الله عليهم من خير ..
وقصد الشيخ عبد الله داره بعد ما احس  بإرهاق  فى جسده  واخذ  إبراهيم نايه ليجلس  تحت شجرته على جسر المصرف  الذي  تعود الجلوس عندها ,وظل يعزف حتى ظهرت شقشقة النهار وبدأت الناس تأتى الى عملها  فى أرضها0
وعندما قام  إلى الجسر ليرى حركة المياه التي تنصب من العيون  في عرض المصرف , يجد بؤجه طافيه على الماء  تقترب منه شيئا فشيئا ..
ظل يحدث نفسه بعد ما ظن إنها بؤجة فاتن هذه المره .
وكأن ابن بديعه يراها قبل ان يراها إبراهيم فظل يجرى وسط القريه مهللا
معلنا أن فاتن قد غرقت في المصرف هذه المره....
بؤجة فاتن فى المصرف ..
وقف العمده وهو في حيره عندما سمع صياح ابن بديعه ,ثم ناداه يحدثه بهدوء .
_يا ابن بديعه   فاتن ماتت من زمن ..
رد عليه ابن بديعه وهو واثق من كلامه :
_لا , فاتن غرقت هذه المره فى المصرف 
_ومن لا يصدق يذهب الى المصرف بنفسه 
تعجب العمده بهدوء ابن بديعه فى كلامه وثقته فى هذا الخبر ,على الفور جمع الغفر ليذهب الى المصرف ويرى  بنفسه إن كان صحيحا ام كذبه كما حدث من قبل ,وصل العمدة الي الجسر فوجد إبراهيم جالسا يبكى ,تيقن العمدة أن الخبر صحيح هذه المره .
صدق ابن بديعه هذه المره فى كلامه .
_مظلوم يا ابن بد يعه .
_محق فى كلامه ,يبدو إنك ستترك كذبك وإفترائك بما تقوله على الناس , امر العمده غفره لإبلاغ المركز بالحضور ,وتجمعت الاهالى على الجسر لتترقب ما يحدث في تلك اللحظات القادمه عندما تحضر الشرطه الى هذا المكان للتحقيق في هذا الحادث .
وبعد لحظات حضر المأمور ومعه قوه من الشرطه وكذلك وكيل النيابه الذى يتولى التحقيق والطبيب الشرعي الذى يقوم بتشريح الجثه ومعرفة اسباب الحادث ,وانتشلو الجثه من بين البوص ليفحصها الطبيب الشرعى ويعرف سبب الوفاه, وفتح وكيل النيابه المحضر ليدون فيه ملابسات الحادث .
ثم مرت لحظات عصيبه علي الناس الواقفين يترقبوا إجراءات التحقيق ... حتى إنتهى وكيل النيابه من التحقيق ,.. يأمر كاتبه بإغلاق المحضر قائل :

أكتب  ... وقد أمرنا نحن وكيل النيابة ، بقفل المحضر في ساعته وتاريخة : أكتب الساعه والتاريخ , بعد ما تبين أن المجنى عليها هي جثة فاتن بنت العجوز العمياء , ولعدم ثبوت الادله , لذلك قيضت القضيه ضد مجهول ...


- 23 -
بات أهل الكفر جميعا فى حزن عميق على موت فاتن بعدما شيعوا جنازتها ودفنوها بجوار أمها ،

وخرج العمده على المعزيين ، يشكر سعيهم ممتناً لهم بإستجابتهم للمصائب والأفراح التى  تحدث

فى الكفر ..

وقد جلس ابراهيم يقرأ سوره ( يس ) على فاتن التى راحت ضحيه طيش منها ، حتى يغمدها الله

هى وأمها فى رحمته ويسكنهما هما والمؤمنون الصالحون فى جناته.

ووقف الشيخ عبد الله بعد كل ذلك يوعظ فى الناس قبل أن يتركوا الصوان الذى كلف علية العمدة

والشيخ عبد الله فى إقامته ، وظل وقتاً طويلا يوعظهم بالأعمال الصالحة ، وعدم أنصياعهم وراء

الاهواءات الضاله على أن يكونون يداً واحداً فى عمل الخير، وأن الكفر الأن قد دخل فيه الخدمات

بعدما كان معدوما منه ، وعليهم أن يعطوا لأبنائهم الفتيان والفتيات حق التعليم ، ولا يحرمونهم من

هذا النور ، خصوصاً بعد ما أنشأت المدارس فى الكفر، وأصبح مكتملا من المدارس والمستشفيات

والمياه النظيفه وأنارة شوارعه ومنازله ، كان إتعاظ الشيخ عبد الله لهم وهم يصنعون له تأثيراً

كبيراعليهم ، فقاموا جميعاً يحمدون الله على نعمته يهنئون العمده والشيخ عبد الله على ذلك ، وبينهم

ابراهيم الذى ما زال الدموع تنهمر على وجنتيه على فراق فاتن ..

إستأذن ابراهيم منهم وذهب الى داره متأثراً لما حدث ، حتى لمح الشيخ عبد الله الحزن عليه ،
فلحق به ينادى :

- إبراهيم ..

انه لأسا كبيراً علينا جميعاً على فراق فاتن ، لكننا لا نملك لها من الامر شىء وما فعلته فاتن فى  

نفسها ما هو إلا حرام ، وفاعله يكن فى النار خالداً مخلدا ، ولا نملك لها إلا الدعاء عسى الله أن

يرحمها .
غمغم إبراهيم قائلا :
-         لقد قمت بنصحها قبل أن تسافر الى البندر ولم تصغى لكلامى .
-         اننى كنت على يقين من هذة النهايه .
قال الشيخ عبد الله :
-         أعرف كل ذلك ، ولكننا جميعاً صغيراً وكبيراً فى أهل الكفر لا بد من ان نتعظ ونأخذها عبره ، هذة أول مره يحدث عندنا هذا الحادث الأليم ، أم ما حدث ما هو الا صفاره أنظار لأبنائنا ، وما حظيت به الكفر من خدمات اليوم ، سيجعل هذا الحادث لا يتكرر مره ثانيه ، وعندما كنا نكون خائفين على بناتنا من تعليمهم فى البندر ، لا نحمل هم اليوم ، فاليوم قد صار الكفر يعيش فى النور غير ما كان ذلك كنا نعيش فى ضوء خافت ..
سمع إبراهيم حديث الشيخ عبد الله وعقله فى رأسه ، فرجعت له أبتسامه مرة ثانيه ..
لمحها الشيخ عبد الله فضحك وقال له :
-         من تلك الساعه ستتغير الكفر الى قريه ، وسيكون أمامنا انجازاً كبيرا فيها ، ما دومنا وضعنا أيدينا فى يد بعض ، أننا يا إبراهيم بأيدينا نجعل هذة القريه مدينه ، وإن التغير لا بد وان يبدأ من أولنا ، ولا ننتظر معونه الحكومه ، فى أن تأتى الينا لتنشأ هذا وهذا ، وليت كل القرى والكفور والنجوع ان تأخذ مثلنا المبادره ، نحن نصلح أنفسنا بأنفسنا لا غيرنا ..
-         ان الله يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
ارتاح ابراهيم من تلك الكلمات التى أثلجت صدره ، وإنتعش مره ثانيه يشكر الشيخ عبد الله الذى أخرجه من الهم الى الفرج .. وهمّ إبراهيم بالانصراف حتى قال له الشيخ عبد الله :
- اريد منك ان تاتى الى دوار العمده ، لنعقد أموراً هامه فى دواره بشأن القريه بعد ما أقوم بفض النزاع الذى عند ابا ربيع وولده ..
قال إبراهيم :
-         سأحضر فى هذا الموعد ، لأنى أريد أن أتحدث مع العمده فى أموراً هامه أيضاً ونقوم بحلها جميعاً بعد الترائى والتشاور فيما بيننا .
-         ثم تركه إبراهيم واتجه الى دراه ، يحدث نفسة:
- اننى لم أصدق نفسى لأن قابيل ابن أبا ربيع فى حاله ماليه طيبه بعد أن رجع من الكويت فلماذا الشيجار بينهما ، هل على المال ، أنه لا يشتكى بضيقه ماليه ، فقد تحسنت حاله ابا ربيع بعد رجوع ولده ، وقد إرتدى القميص الأبيض والبلغه والطاقيه الجديدة حتى زوجته ارتدت أفخر الجلاليب دونا عن نساء الكفر لعلى القضيه تكون بسيطة .
- 24 –
كان ابن بديعه الشقى قد ارتدى الثوب الذى اعطاه له أبا ربيع وقد ارتدى البلغه وعدل من هندامه ، وشعره الذى كان منكوشا وصار فى الكفر يمسك بين أصابعه ( خيرزانه رفيعه ) وجعل يلوح بها يغنى :- الواد بعد الشقى
-         صبر والتقى
-         وهداه واتقى
-         وفاضل العروسه بقى
كان صوته يشجوا بهذة الكلمات فتسمعها بنات الكفر اللاتى يسيرون الى البحر المجاور لهم فيضحكون من كلماته بضحكات تمتزج بالكسوف قائلين :
-         شوفوا يا ولاد ابن بديعه كيف صارت حالته
-         ابن بديعه لابد أن يكون مطربا
-         سبحان مغير الأحوال . غير ابن بديعه من حال إلى حال
وظلوا يقولون عنه العبارات حتى وصلو النهر فنزلوا اليه يغتسلون ساق أرجلهم العاريه ، وتتبعهم ابن بديعه ، وجلس على صخره عاليه يشاهدهم وهم فى الميه ، لعب ريقه وحس بنشوه غريزة الزواج فتوسعت عيناه ، حتى قرر أنه سيقدم على الزواج فورا
ظل ساعه وهو فى مكانه حتى انه لمح الشيخ عبد الله متجها الى دار أبا ربيع وهو راكبا حمارته جرى الية وأستوقفه .
قال الشيخ عبد الله :
-         ما بك يا ابن بديعه ؟!
قال ابن بديعه :
-         اريد أن أتزوج يا با الشيخ عبد الله .
اندهش الشيخ عبد الله من كلامه المفاجأ له ، وتلعثم لسانه ولم يقدر على النطق
كرر ابن بديعه كلامه مرة اخرى
-         اريد أن اتزوج يا با الشيخ عبد الله .
قال له الشيخ عبد الله :
-         يا ابن بديعه أن من شروط الزواج ، المسكن ، والعمل حتى يطعم زوجته والانفاق عليها ، وعدم عمل المقالب فى الناس ، ولابد وأن يكون على قد المسئوليه ، فهل تملك هذة الشروط
-         قال ابن بديعه :
-         انى قد تركت الشقاوه ، ولم ارجع اليها يا با الشيخ عبد الله
-         وعدلت من هندامى كما ترى .. لبست جلابيه أبا ربيع ولبست بلغه جديدة . وقمت بتسريح شعرى حتى أننى صرت شخصا أخر .
ضحك الشيخ عبد الله
-         هذا عظيم ، ولكن هذا لا يجعلك تكون مكتملا للزواج ، لابد وأن يوجد سكن وعمل هذان المهمان لكى تنشأ اسرة
قال ابن بديعه :
-         السكن سيتكلف به العمده ويبنى لى دارا فى القراطين .. والعمل أتركه لك توفره لى .
-         نظر الشيخ عبد الله له فى اعجاب ويتقن ان ابن بديعه صلح من حاله وبدء يتحدث كالعقلاء وما يراه أمامه هو خير دليل على اصلاحه .
قال له الشيخ :
-         يا ابن بديعه عليك ان تحضر الى دوار العمده اليوم بعد العشاء لأتشاور مع العمده فى أمرك .
-         وافق ابن بديعه على طلبه وشكره .. ثم تركه الشيخ عبد الله متوجها الى دار ابا ربيع وصار ابن بديعه الى دوار العمده وهو يغنى :
-         ها تجوز بنت جميله
-         حوريه مالها مثيله
-         وأكون اسره وعيله
وظل يغنى تلك الكلمات الى أن وصل الى دوار العمده .
- 25 -
كان قابيل ابن ابا ربيع قد قرر السفر مره ثانيه الى الكويت حتى يعيش بجانب زوجته الكويتيه وابنه ، ولم يرضى أبوه عن هذا السفر ، ولا أمه أيضا انهما لا يرضيان ان يغترب قابيل فى بلاد بعيده وقد عزم قابيل على الرجوع فظل يجمع ملابسه فى حقيبه كبيره من التى أتى بهم .
قالت أمه والحزن فى عينيها :
-         لا تتركنا يا قابيل فأنت ولدنا الوحيد .
وقال أبا ربيع :
-         لقد أوفر لك سبل الراحه هنا فى الكفر . وتكون غير أى فرد هنا بالمال الذى اتيت به يا قابيل .
لم يسمع قابيل توسلات أمه ولا ابيه ولكنه قال لهم :
-         أننى سأسافر الى الكويت ، هناك العمل فى انتظارى ، ولم أدعه لأحد غيرى ، غير أن زوجتى وولدى هناك .
ولم تفلح أى التوسلات له حتى يرجع ما فى عقله .
بعد قليل دق الشيخ عبد الله ففتحت ام قابيل وهى تبكى , وظل الشيخ عبد الله فلاقا أبا ربيع وابنه قابيل وهو يجهز حقيبه سفره .
قال الشيخ عبد الله :
-         اريد منك قبل ان تسافر ان تقارن بين ابيك وأمك وغربتك فى الخارج , ان هذا رجس يا قابيل ، هنا مهما يكن فى قريتنا الأمن والامان .
-         ان القريه تريد  شابا مثلك له خبره فى عملك
قال قابيل :
-         لكن زوحتى هناك .
-         يا قابيل . هنا البنات كثيرات تخير منها ما شئت وأبيك لم يتمهل لك فى تزويج إحداها ..
جلس الشيخ عبد الله لأنه كان متعبا ، وهو يدور بنظراته بين وجوه ابا ربيع وزوجته فلمح فى ركن الغرفه جهاز الفيديو والتليفزيون .
-         ما هذه الاجهزه التى هناك ؟
قال ابا ربيع :
-         انهم اجهزة فيديو وتليفزيون لم نفتحهم حتى الان بعد أن غممنا من هذة المصيبه التى جاء بها قابيل ، رغم أننا قد قمنا باصلاح الدار وأدخلنا فيها الكهرباء .
قام الشيخ عبد الله وأمسك قصاد أبا ربيع حتى يهيئوا التليفزيون للتشغيل ونادى على قابيل لكى يساعدهم فى فتحه . وقاموا بالفعل بفتحه ففرحت ام قابيل بعد ما كانت حزينه وظهر على شاشته الصوره لأول مره وقال الشيخ عبد الله :
-         انك يا قابيل لم تعرف ما صنعناه حتى تدخل الكهرباء كفرنا إننا الان سنعيش كالمدينه ننعم ما فيها من خدمات ونكد وندح حتى نجعلها أكثر إزدهارا والغربه ما هى الا تربه يدفن فيها المرء حياً لا يحصل على الامان ويحس بالأمن وسط عائلته ،أريد ان تعرف حقيقة يا قابيل .. ان رؤيه الأهل كل صباح خير ما فى الدنيا وما فيها حتى ولو كنت مغتربا فى المركز .. أتفهم المركز .. حتى ولو كانت الغربه فى المركز وليس الكويت .. رؤية أبيك وأمك خيرا تتغرب فى بلاد غريبه . وحينما كان الشيخ عبد الله مغمورا فى حديثه ، يظهر على شاشه التلفاز ، غزو الكويت فتوسعت أعينهم جميعا ، وأغلظت شفتاهم يشاهدون الحدث فى شراهه . حتى علا صوت الشيخ عبد الله قائلا :
-         يا للا المصيبه .. يا للا المصيبه .
وقال قابيل بهستريا :
-         لا ... لا .. إنها أكاذيب .. انها اكاذيب .
وقد ظهر الحزن على ابا ربيع وزوجته يهدأونه من روعه
قال الشيخ عبد الله :
-         هذة دولتان شقيقتان يا قابيل ، ألم ترى الفاجعه التى تهز مشاعرنا جميعاً ، انها مصيبه بكل المقاييس . .
-         وقد جاءت الانباء تؤكد غزو الكويت ، ورجوع المصرين الى وطنهم ، حتى ينتهى الغزو لكنه محظور على كل فرد من أيه دوله أن يسافر اليها
حينئذ ربت الشيخ عبد الله على كتف قابيل يواسيه :
-         ألا تسمع يا قابيل ، انها ليست ارادتنا ، فهل لك حل أخر .
عجز قابيل على وجود حل لسفره الى الكويت بعد هذة الانباء المحزنه ، وطلب من أبيه وأمه الصفح ، ثم احتضناه ويواسينه على مصيبته ومصيبه كل العرب حتى يفرج الله كربه شقيقتنا الكويت .
وقبل ان يتركهم الشيخ عبد الله ، طلب من قابيل أن يذهب الى دوار العمده اليوم بعد العشاء لكى يجدوا حلاً لعمله فى الكفر .
- 26 -
بعد صلاة العشاء الذى أمّ بها الشيخ عبد الله بالمصلين إتجهوا الى دوار حضرة العمدة ، فوجد اهل الكفر كبيرا وصغيرا بمضيفته ودخل عليهم الشيخ عبد الله ومعه العمده وابراهيم ، وكان حاضرا قابيل الذى عزم على الابقاء فى الكفر ، ففرحوا بوجوده بينهم ، وجلسوا جميعا فى المضيفه وكان خدام الدوار والخفر يدورون عليهم بأكواب الشاى والمشروبات البارده واستفتح ابراهيم الجلسه عسى الله ان يرشدهم الى طريق الصواب وعمل الخير .
ثم قال :- أننا نجتمع عند حضره العمده للتشاور فى أمور كثيرة تهم الكفر كله . ونحن نقوم بالاتفاق عليها حتى اننا ننفذ منها ما نستطيع لمنفعه أهلها .
اقترح ابراهيم فى بادىء الأمر على رجوع الصندوق الذى كان يذهب ريعه الى  الام العجوز وابتها فاتن .
قال الشيخ عبد الله للحاضرين .
-         بمناسبه تذكرها بيننا اقرؤا لها الفاتحه .
وقرؤا كل الحاضرين الفاتحه ، ثم تواصلوا الحديث  .
قال الشيخ عبد الله :
-         اننى انا وحضره العمده نوافق على هذا الرأى .. فرد الجالسين جميعا
-         موافقون ..
قال ابراهيم :
-         ويكون مخصصا لحل أزمات القريه فى مقدمتها مساعدة الفقير أو تكفين الموتى الذى لا عائل لهم .
قال الشيخ عبد الله :
-         أما زواج الفتيات اللاتى لم يتزوجوا .. فاننا نعمل على تزويجهم وبهذة المناسبه أوجه كلامى لحضرة العمدة أن إبن بديعه يريد الزواج يا حضره العمده .
نظر الجميع فى وجوه بعضهم بدهشه واستغراب ، يمص كل واحد منهم شفتاه
-         ابن بديعه .. ابن بديعه
قال الشيخ عبد الله :
-         نعم انه أصلح من حاله .. ويريد العمل والسكن .
قال العمده :
-         نعم انه له حقا كما لنا جميعا وله حق فى الزواج مثلكم لابد وان ابن بديعه يتزوج أنا سأبنى له الدار ..
قال الشيخ عبد الله :
-         ونفقه زواجه ستكون من الصندوق وهذا أول عمل الخير .
-         أما عمله ، سنعطى له بذرة وفأس ونحضر له ماشيه ليزرع فى القراطين اما العروسه فهى بهيه بنت الحاج مسعود إبن أبو الفضل .
كان حاضرا الحاج مسعود فى الجلسه فقام قائلا :
-         اذا صلح من نفسه غير هذا لا أوافق
وعدة الشيخ عبد الله فى ذلك ووافق الجميع على رأيه .
قال العمده :
-         اذهب يا خفير ونادى على ابن بديعه الجالس على عتبه الدوار ، فخرج وجاء به ، شاهده الجميع فندهشوا لما فعله فى نفسه لقد تغير حال ابن بديعه ، لقد صار رجلا يشاد به ، لقد ترك أفعاله الشقاويه ، وعدل من هندامه حتى كادوا لا يعرفونه من طلعته عليهم فرح ابن بديعه لذلك ووافق عليه مسعود ابن ابوا الفضل فور مشاهدته ثم جلس بجوارهم يستمع لهم حتى يكتمل الحديث .
استرد الشيخ عبد الله قائلا :
-         أما قابيل ابن ابا ربيع .
قاطعه قابيل .. اننى أحاول إصلاح ما فى الكفر بمالى الذى اتيت به من الكويت حتى نستطيع ان ننشأ لنا مشروعات تدر علينا بالمال الوفير .
ووافقه الجميع على هذة الفكره وقالوا :
-         فكره صائبه ..
ثم قال ابراهيم :
-         كفرنا الآن ازداد بالشباب والفتيات وعلينا جميعاً أن نساهم فى عمل مشغل للفتيات ومركزا لتوزيع الاسمده والكيماويات ولتكن فى الجمعيه الزراعية ، فأرض الجمعيه الزراعية واسعه وتساع هذا المركز ، ومركزا أخر لاستشارات الحمل وعلاج الغير قادرين فى الوحدة الصحيه ، لأن ابنيه الوحده الصحيه صغيره وأرضها كبيره ، ومركزا أخر لشباب القريه يمارسون فيه ألعابهم وهوايتهم التى يحبونها ، وكلما فكرنا سننشأ المزيد والمزيد حتى لا نعانى من نقص الخدمات وينمو الاقتصاد فى بلدنا على يد الشباب العاطل الذى يعانى من البطاله ، وبذلك سنحد منها بهذة المشروعات التى تفتح العمل لكل من يريد ، وتقضى على السرقه ، والمخدرات ، والتشرد وكثيرا من تلك السلوكيات السيئة ، حفاظا على أولادنا وأجيالنا القادمه من هذة الأمراض الخطيره .
ومرت الأيام وانفق قابيل كل ما لديه من مال ، وساعده كبراء البلد فى وضع مبلغا من المال لإنشاء المشاريع المطلوبه والتى خططوها على أرض الكفر ، وعمل العمدة على زيادة الخفر لحراستها ، وحراسه كل الخدمات التى أقامتها الحكومه والتى تقامها البلده بالجهود الذاتيه ، وفتحت مراكز لتحفيظ القرآن الكريم ، ومراكز ثقافيه تضم مكتبه بها كل علوم  المعرفه ، ومراكز ترفيهيه ورياضيه ، وشجرت طرقات الكفر كلها ، بشجيرات كثيفه ، خصوصاً فى منطقه المقابر حتى تظل على من ينتظر الجنازة ، حتى بدت القريه منسقه من كل شىء ثم دخلها التنظيم فلم يبنى أحد إلا فى المناطق المخصصه للبناء ، ويمنع المبانى فى الاراضى الزراعية ، لأن الاراضى الزراعية هى مصدر الخير على البلد كلها وبفضل الله وتعاون أهلها تزايدت عدد المشروعات بها ، وتزايد أيضا المال فى الصندوق ، وقامت فيها الأفراح يحتفلون بزفاف ابن بديعه الذى نال حظا وفيرا من حب الناس له وتعاونهم معه ببناء منزلا له ليكون مأوى له ولزوجته وتدفق الناس معه لحضور هذة الليله التى لم تنسى فى القريه فى بهجه بالغه حتى الصباح .
( تمت )


     صدر للمؤلف :
     ــــــــــــــــــــــــ

صدر للمؤلــــف ..

1- قصتان فى كتـــــاب..
بسمه.. والعصفور الأخضر 
والعائلة.. وعطلة الصيف..                                        2010
2- شعر للأطفـــــــال.. 
حـــــــوارات..                                                       2011
3- رواية ..
الحياة فى ضوء خافت.                                             2012
4- سلسلة فوائد للقلب والروح..
نور الكهف (1)..                                                   2013
5- مسرحية..
محفوظ .. ملكا.                                                     2014
6- مجموعة قصصية..
صنعة عزرائيل .. وقصص أخرى.                             2015
7- روايـــــة..
بطاقة شخصية..                                                    2016
8- مسرحيات مونودراما..
فوق الضوء.. الست نظيرة.. شباب أون لاين..               2017                                                         
9- فوائد للقلب والروح
ثقافة الإختلاف وقبول الآخر..  (2) .                          2018 
10- من الأدب العالمى..(الجزء الأول)..
القناع الذهبى.. وجولات ليلية..                                  2019

             للتواصل مع المؤلف..
             ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
             ميت غزال – السنطه – غربيه.
             موبايل 01009482481
            
* للتواصل مع المؤلف ..

ميت غزال- السنطة- غربية
موبايل / واتساب :  01009482481
                Fawzy.yosef16@yahoo.com(f) 
Fawzy.yosefismail1000@gmail.com (g  )
Fawzy.Ismail1612@twitter.com (T       )
   
قناة السيناريست فوزى إسماعيل..  يوتيوب
مصر فـرحتنـــــــا .. مدونة  فوزى إسماعيل
 

E-mail: fawzy.ismail 10@yahoo.com

مقال بقلم/ فوزى اسماعيل

                                                      تحية لرجال كفر الشيخ مفتاح لسعيهم فى عمل الخير اقر وأعترف بأن رجال كفر الشيخ مفتاح...