قصة قصيرة
..
تأليف
فوزى يوسف إسماعيل
أشواك امرأة
حين
استيقظت من نومهـا، بدا لهـا الصباح باعــث عـن الأمل والتفـاؤل، خرجـت إلى الشـرفـة،
رأت الشـمس تزين وجــهة السماء، ونسـيم الهــواء يداعب الستائر بلطـف، والبحـر هـادئ
الأمواج، فكانت الشرفة تطل على البحر مباشرة، وقفت تتأمل وتفكر، ولكن من خلـف السـتائر،
تفكـر فى الأمـس الذى كانت تختبـئ الشمس خلـف الغيـوم، خلف ستار مُعتم، وصوت الأمواج
تتلاطم بأصوات عاليه لا تنتهي، كان على آثارهـا هطول بعض الأمطار كغيوم شتاء قارص،
أما اليوم فالشمس ساطعة والأمواج ساكنة كيوم صيـف حـار، تعجـبت وابتسمت ابتسامة
خفيفة، تدل على أن الحيـاة ليسـت على وتيرة واحدة.
وقفـت
تتنسم الهـواء الآتي من الشمال، أخـذت فـترة طويلة وهـى تستنشقه، حتى يدب فيها
النشاط والحيوية، وقالت لنفسها :
- اليوم
يبدو هادئا وممتعا.
يغمرها الشوق فى
الاستحمام هذه اللحظة، ليس أحد من الناس على جنبات البحر، فى هـذه اللحظـة من الصباح،
لأنه بعـد ساعات قليـلة يمتلئ الشاطئ بالمصطافين من كل مكان، وهذا يمنعها من أن
تقرب من الشاطئ، لأنهـا لا تريد أن ينكشف جسدها ويراه رجل أجنبى غير زوجها الذى
رحل وتركها لعالمها.
هرولـت إلى الداخـل، وفتحـت
أدراج دولابهـا الذى يكتـظ بالملابس الداخلية، مع أنهـا ليست بامرأة تحظى بأرداف
وشحوم، بل إنهـا خالية من هذين، عود جسدها نحيل فى المتوسط، وهى ما زالـت فى
الثلاثين من عمرهــا، هـذا ما جعلهـا رشـيقة ذات قــوام ملفوف ومتناسق وجميلة.
عـندما فتحـت أدراج
دولابهـا، رأت الملابس الزاهية تشـع منه بأعـداد كثـيرة، وقفـت تتأملها لحظة، تحدث
نفسها :
- كيـف لى أن أتمتـع
بكل هـذه الملابس التى يكتـظ بهــا دولابى وأنا على هـذه الحـالة البائسة، حالة
الحزن والحداد.
راودهـا عقلهـا فى أن
تقلع من الملابس السـوداء، وأن تتمتع فى الحيـاة كباقى الفتيات التى فى سنهـا، فى
هذه اللحظة فقط ستقلع من ثوبها الأسود الذى ارتدته طـوال خمس سنوات كاملة على رحـيل
زوجهـا، فترة طـويلة تميزت بالحـزن والأسـى على فـراق الغالى، الذى عـاش معها حيـاة
سعيدة دامت سنه ونصف، تزوجـت وهى فى السادسة عشر من عمرها، لكن الله اختار أن تبقى
فى الدنيا وحيدة، وهى مؤمنة بقضائه وقدره وكثيرا ما تردد :
- إنا لله وإنا إليه
راجعون.
ليس لأحد من بنى
البشر يعارض قضاء الله، عاشــت هـذه الفـترة على ذكرياته رغــم هذه المدة البسيطة
التى تزوجها فيها.
جفـفت عـرق أمل جميـل
كان يلازمهـا مـنذ بداية زواجهمـا، هائمة فى أحـلام وردية، تتسم بالحب والرعاية
والحنان، تذكرت حـديث جارتهـا لها كلمـا رأتها تطلب منها أن تغـير الملابس السـوداء،
ورنت فى أذنهـا عبارة.. لو كان هــو الذى على قـيد الحيــاة لحزن نصف حزنك، أنه سيتزوج
بعد الأربعين لقدر الله.
رنت الكلمات فى أذنهــا
مرات ومرات، وكأن هـذه العبــارة صار لهــا صدى صوت يرن فى أرجاء الغرفة، يطلب
منها العزوف عن هذا الحداد فورا.
أقلعت أخيرا عن
ارتداء الملابس الســوداء، ووضعتهم فى ســلة المهملات، بعيدا عن الدولاب وعن الغرفة
بأكملهـا، راحت تفرد وتثنى جسدها، كانت تريد أن تعرف مدى مرونته، وجدت جسدها وكأنه
مصقول فى قاـلب حـديدى، يبقى على نمـط واحد، أخذ عظمها من رأسها حتى النخاع يشتد
عليها، ويؤلمها، ظلت تتلوى حتى يصير جسدهـا مـرنا، ينفـك مـن جـموده، وكأنهـا تحـترف
لعـبة الجمبـاز مـن قبـل، انتهــت مـن تلـك التمرينات، واتجهـت إلى الدولاب وهى
متقطعة الأنفــاس، اختـارت ثوبا يتناسـب مع بداية مشرقة، بداية ينتظرها حياة جديدة
ليس فى حسبانها اللون القاتم.
وقفت أمام المرآة
طويلا وهى تحاول أن تزيح من على رأسها الإيشارب الأسود الذى يخبئ شعرها الأسمر
الطويل، منذ فـترة الحـداد على رحيل زوجها، ببطئ وقشعريرة أزالت الإيشارب، فنساب
الشعر المسترسل خلف ظهرها، ونظرت فى المرآة فوجدت نفسها امرأة أخرى لم تراها من
قبل، وعلمت أنها على حق عندما أخذت قرار الإقلاع عن الحداد.
اشترت فرشاة لأظافرها
وبعض العطور صاحبة الرائحــة النفـاذة، وبودرة ومساحيق بإسراف وبذخ، وتزينت بكل
هذا وأكثر، فظهرت كفتاة فى سن المراهقة، تتحسن مـن جمالها لتجذب أنظار الفتى التى
تحلم به.
خرجت إلى الشارع،
استقبلتهـا العصافـير بمرح وبهجـة، تتغـنى من حولهـا أصـوات الطيور والبلابل،
انطلقت إلى الطريق، وفتحـت ذراعهـا وقلبهـا إلى أحـلام تراودهـــا بحيـاة سعـيدة،
ومنحـت نفسهــا حرية مطلقة، أبدو كل من رآها بإعجابهم الشـديد بها، تذكرت الموج
الهادئ والسماء الساطعة فى لحــظة الظهيرة، وهى تغمرها الميــاه فى البحر تلهو
وتلعب كطفل صغير يلهو ويلعب بلعبته، الآن لا تخشى أنظار النـاس على الشاطئ إذ
شاهدوها عارية، كانت تعتقد أن هــذه هى الحرية التى يملكهـا الناس فقط، وأن كل فرد
حـر فيما يفعل، لا تعمل حساب للامز والغمز من النـاس عليها وعلى مـا من تفعـل ذلك،
ظلـت فى طريقهـا تمشى حتى وجدت أن الوقت مازال طويلا، ستسير فى شوارع جانبية ربما
تجد الهــدوء الذى تنشده، استوقفهـا شــاب ينظر لها بابتسـامة عريضة أظهرت بياض
أسنانه، منحته مثلهـا هى أيضا، انكشفـت لهـا رؤيتها، لكنهــا أبقت على صمتها،
وتركته وهـو مازال يتمعن فى حُســنها وجمالها الأخاذ الذى يلفت الأنظار إليه،
والذى ظهر فى المنطقة فاجأه، تعقبها، قائلا لنفسه :
- لعل هذه الابتسامة
تكون بداية تعارف قد تجمعنا سويا بصداقة أو معرفة.
لم يخسر الشاب شيئا،
إنما يريد أن يجـمع غريزته من تلك المـرأة التى قابلته بابتسامة تدل على رضاها.
مازال الإبقاء على
ذكريات زوجها يراودها بعـض الشئ، وعليها أن تنسـاه أو تتناساه حتى تعيش حياتها
الجديدة، فتحملـت على نفسهـا وحاولت أن تتناساه ليتلاشى كليا من ذاكرتها، قالت
لنفسها :
- الحى أبقى من
الميت.. وأنا مازلت صغيرة ، وكل من رآني أبدى إعجابه بى.
رمت هـذه السـنوات
الخمس فى سـلة المهلات، كما رمت ملابسهـا السـوداء فى هــذه السلة الجامعة للأحزان
والأشـياء الكريهـة، وبدا لهــا كأنه شـئ ولىَ وراح، لا تلتفـت إليه ولا تبالى.
حيـاة جـديدة مُقبلة
عليهـا بكل ما فيها من سعـادة ورخـاء، الإنسان يعـيش مرة واحدة، وعليه أن يقتبـس
من الحيـاة ما يسعـده، منحـت لنفسهـا الطلاقة والحـرية أكـثر، تغفـل ما تشاء لا
يسألها أحـد عمـا تفعـله، حتى كسرت حاجـز الصمت الرهـيب فى حياتهـا، انساب صوت عبد
الحليم حافظ عـبر المذياع، لينبعث منه نغمات رقيـقة تمس القلـوب الحـزينة، ليمحـوا
منهـا البـؤس والشـدائد وصمـت السـنين، وقـفـت تسـمـع وتهيـم فى الصوت ومعانى
الكلمات الجميلين، وجعلها تهيم بين الورد، وكأن سحر الحب وراحة القلب دخلت إلى
نفسها، فتحت صدرها لأنفاس عميقة.
- ربما أستشعر حالتى
المزاجية الجديدة.
مشـت فى الشـوارع الضـيقة،
ومنهـا إلى الواسـعة، وكلمـا تمر على مكان يروق لهــا العين مشاهدته، وقفت تشاهده
وتتأمله، استوقفها شاب أخر يبتسم لها باستحسان ولهفه وترقب، أيتها الحسناء، ما
أجملك وما أروعك، كانت العيون عليها لاهثة، ظنت أنهــم يبحثون عن عروسه، بيضاء،
جميلة، مثقفة، وهى فيها كل هذه المواصفات، فأرسلـت إليهم بإشارة عاجلة، ابتسامة
رضا وتقبل، كتمت فرحتها، ولم تبدى لهم بالموافقة على أحد، حتى تخرج منهم أحسنهم.
دخلت بيتها منشرحة
الصدر، لأنهـا غيرت من حياتها فى لحظة، منذ تزوجـت، ومنـذ فـترة الصمت والحـداد
على رحيل زوجهـا، كانت مقيدة بأسوار وأغاليــل منعتهـا عن متعــة الدنيـا، وهـا هى
الآن قــد أنفتـح حياتهــا بأبوابه على مصراعيـه، جلسـت على أروقه فى الصالة، بعـد
أن جهزت لنفسها كوبا من اللبن السـاخن، من الآن فصاعدا لا للشاى ولا للقهوة، رغـم
أنها كانت تشرب منه مرات ومرات فى اليـوم
الواحد، كانت تتجرعهم رغم مراراتهم، حتى تخــفف من ألم الرأس الذى أصابهـا فى عناء
التفكير، والآن ليس لهـم مكانا فى وجباتهــا اليومية، الآن تحتـسى اللـبن بكـثرة حـتى
يزيد مـن جمالها ونضارتها، اتفقت مع بائع اللبن بأن يأتى إليها عند كل صباح.
وضعت فى التسجيل
الموضوع بجانب الأروقة شريط لعبد الحليم حافظ، فانبعـث منه أعزب الأغانى (أهــواك)
هامـت على صوته وأنغامه، أخذها الحلم بعيدا مع من تحلم به، تخيلته فى قصة حب
رومانسية وكأنه يخطفهـا على فارسه الأبيــض مثل قصص عنتر وعبلة وقــيس وليلى، وبعـد
أن مضت المدة المحــددة للشـريط انتهــت الأغــنية وانتهى معها الحلم، قامت مفزعة،
تذكرت أن النعيم ليس فى الحلـم، بل أنه فى حضن الحبيب الذى تراه مناسبــا لهــا،
لأن السنين تمــر مـر البرق، ارتدت ملابس زاهــية، وخرجت إلى الشارع، وجــدت كل
الشباب الذين قابلوهــا يقفون بجـانب سور المنزل منتظرون مشاهدة طلعتها البهية مرة
أخرى.
وقتهم جميعا بطرف
عينيها فوجدتهم يتهامسون عليها، تتفحص معالمهم.
من ستختار ؟
ومن المناسب لها ؟
- هذا ..؟
- أو هذا..؟
- أو هذا..؟
خدعها المظهر ولا
تعلم شئ عن الجوهر، ترددت فى الإختيار،وهم يقفون من أمامها فاتحين أفواههم، ينظرون
إليها وكأنهم يلتهمونهـا، صار الوقت متأخـرا، وهم ما زالوا فى أماكنهم، كأنهم
مسحورين وعلى رؤوسهم الطــير، لا يفيقون إلا على صوت خفر السواحل، تأمرهم بمغادرة
المكان.
نامـت على أحلام وردية
لليــوم التـالى، وترددت شائعات عنهـا فى الحى الذى تعـيش فيه، من الذين يعرفونها
ويعرفون زوجها، سمعت هذه الشائعات بأذنيها ولـم تبالى بما تسمع، لأنها الآن سـوف
تفكـر فى الزواج من رجـل أخــر تعيــش معه بحـرية ودون قيود، رجل منفتح على
الحياة، الحياة التى تراها الآن،وعندما تتزوج تنكسر الشائعات لا محالة، وتعيش حياة
هـادئة، كباقى النساء الذين يعيشـون فى كنـف أزواجهـن، الآن أين العريس المنتظر،
الذى تقع عليه نظرى فى كل هـذا الشـباب الذى يطاردونهـا من مكان إلى مكان، تحاول
أن تنزج وسـط كل واحــد منهم، حتى تعـرف عنه أكـثر، عن حـياته، وثرواته، وشهــاداته
العلمية، لا تعـرف إن من يفعــل مثل هـؤلاء الشــباب لا يملك خردله فى جيبه الخـاوية
من المال، إنما يمـلك السرمحه والسـعى وراء الملـذات فقط، ليس له هدف فى الدنيا،
طاوعهـا غرورها، وكانت تظهر كل يوم مع شاب غير الأخر، قبل أن تبدى لهــم بالموافقة
على أحــدهم، أو تأخــذ قرارا فيهــم، رغم أنهم لا يفاتحونها فى هذا الباب، إنما
هم أفواه لاهثة متعطشة لغرائزهم الشيطانية.
تصاعدت حـدة الشـائعات
عليهـا، حتى أنهـم أطلقـوا عليهـا (فتـاة ليـل وبائعـة الهوى)
حـزنت حـزنا شـديدا
من هذا اللقـب اللعـين، تردد هـذا اللقب بقـوة وسط الكازينوهات والبـارات ومسـارح
اللهـو والعـبث فى الأضـواء الليـلة، ثرثرة حـريـم بينهـم تجــوب الأحاديث
الجانبية، وصلت إلى أكـبر عـدد ممكن من
أحيـاء الحى، خصوصا النسـاء اللاتى لا عمل لهـم، ازدادت فواتير التليفونات الأرضية
فى المنازل من حديثهـم الذى لا ينتهى صداه، حتى اشتكوا الأزواج منهم حتى طفح الكيـل،
حتى اتفقــوا على رفــع هواتفهم توفيرا للميزانية.
كانت سيرت المرأة
تكتب فى بعـض الروايات والقصص ممن يحظى بموهبة الحكى، كانت أيضا تكتب على الهواتف
اللاسلكية، وتبعـث عبر رسائل قصيرة لمن يعرفونها ولا يعرفونهــا، صارت كـفضيحة
بجــلاجل، كمـا يقــول المثل الشــعبى، حاصرتهــا الشائعات فى كل مكان تذهب إليه،
حتى فى مخدعها عندما تهم إلى النوم، فى أحلامها عندما تغوص فى النوم،، رافقتهـا فى
أنفاسهاـ، فى طعامهــا وشرابهــا، ضاقــت بهــا كمصيدة تضيق على فأر مذعور، غرقـت
فى بحـر الشائعات، قبل أن تقترب من مياه البحر التى تمنت أن تلهو فيه يوما من الأيام.
* *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق